«عيال زايد» و«آل ميديشي»

01:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. صلاح الغول*

في مقال الأسبوع الماضي، ألقينا الضوء على أحدث النماذج التي قُدمت لتحليل السياسة الخارجية الإماراتية، وهو نموذج فلورنسا في ظل حكم آل ميديشي. وقد بيّنا أن ثمة تشابهات بين التجربتين الفلورنسية والإماراتية، أهمها صغر الحجم الجغرافي وقلة القدرات الديمغرافية.

وكما كانت فلورنسا مركز جذب ثقافياً واقتصادياً بأوروبا في الفترة الممتدة من القرنين الخامس عشر إلى الثامن عشر، فإنّ دولة الإمارات حالياً أحد أهم مراكز الجذب الثقافي والبشري والاقتصادي في الشرق الأوسط والعالم.

بيد أنّ التشابهات بين التجربتين الإماراتية والفلورنسية لا تعني التطابق بينهما؛ فثمة اختلافات عديدة ومتنوعة بينهما. أول هذه الاختلافات تتعلق بالمؤسسية؛ فالتجربة الإماراتية أكثر مؤسسيةً من نظيرتها الفلورنسية. فمن الصحيح أن ثمة سبع أسر حاكمة في الإمارات، لكن حكام الإمارات السبع ينتظمون في مؤسسة أعلى، هي المجلس الأعلى للاتحاد، الذي يُعد الهيئة التنفيذية والتشريعية العليا في البلاد، ويقوم بانتخاب رئيس الدولة ونائبه (أو نوابه)، ويرسم السياسات العامة للدولة ويقرّ التشريعات الاتحادية. كما ينتظم «عيال زايد»، بصرف النظر عن انتماءاتهم القبلية، في المجلس الوطني الاتحادي المنتخب نصف أعضائه، وفي وزارات الحكومة الاتحادية المختلفة، وفي سفارات وممثليات دولة الإمارات بالخارج.

وثمة متغيران آخران مهمان يجعلان تجربة الأسر الحاكمة في الإمارات مختلفة كل الاختلاف عن تجربة أسرة آل ميديشي في فلورنسا. المتغير الأول هو ما يتعلق بمأسسة القبيلة عن طريق المجالس، وفي مقدمتها برزات الحُكام وأولياء العهود والنواب، وتحديثها عن طريق التعليم والتفاعل الثقافي مع جنسياتٍ عديدة ومتنوعة تزخر بهم دولة الإمارات. والمتغير الثاني يشير إلى ذلك التطور الحثيث الذي شمل قبائل الدولة كلها، وأسرها الحاكمة، وهو المتعلق بالاندماج الوطني، وتبلور مفهوم شعب «عيال زايد» ليشير إلى أبناء الإمارات جميعاً بصرف النظر عن خلفياتهم القبلية والأسرية.

وهذا الاندماج الوطني ما كان ليحدث لولا وجود توافق واندماج داخل الأسر الحاكمة نفسها، وفي مقدمتها آل نهيان. واتضح ذلك في الانتقال السلس للسلطة على مستوى الدولة وعلى مستوى إماراتها. ولعل أحدث الدلائل على ذلك تولي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد حكم أبوظبي ورئاسة الدولة عقب وفاة الشيخ خليفة، رحمه الله، في مايو/ أيار 2022، واختيار سمو الشيخ خالد بن محمد ولياً لعهد أبوظبي في مارس/ آذار 2023. ومن ثم، فالتنافس والانقسام الداخلي الذي أفضى إلى انهيار حكم آل ميديشي في فلورنسا لا ينطبق على الحالة الإماراتية.

وثمة اختلاف آخر بين التجربتين الفلورنسية والإماراتية، يتصل بالبيئة الخارجية. فبينما كانت إمارة البندقية مُحاطة بدولٍ استعمارية متنافسة ومتصارعة، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال وهولندا. وأسهمت محاولة هذه الدول النفوذ إلى الشؤون الداخلية للبندقية في تأجيج الصراع الداخلي بالإمارة الصغيرة؛ ما أفضى في النهاية إلى انهيارها!

صحيح أن الإمارات تقع في أكثر أقاليم العالم اضطراباً، وأنها محاطة بدولة ذات اتجاهاتٍ توسعية، إلا أنه في هذا الإقليم يقع حلفاء الدولة الرئيسيون في مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية. كما أنّ البيئة الخارجية للدولة تخلو من وجود دول كبرى متصارعة على النفوذ الاستعماري.

والأهم من ذلك أن القيادة الإماراتية الرشيدة، منذ تأسيس الدولة على يد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، امتلكت مستوى عالياً من الاستشراف السياسي؛ جعلها تتحوّط لأي أخطار محتملة تواجه الدولة عن طريق الانخراط في تفاعلاتٍ تعاونية مع كل دول الإقليم المتنافِسة، ومن ثم الإسهام في تأسيس بيئة إقليمية مستقرة، ومع القوى الكبرى المتصارِعة، ومن ثم تأمين استقلالٍ استراتيجي نسبي ومرونة كبيرة لسياساتها الخارجية، وتعزيز قدراتها الدفاعية والاقتصادية الذاتية. كما تستعد قيادة دولة الإمارات جيداً لمرحلة ما بعد النفط، الذي يعتبر عماد التجربة التنموية للدولة، عن طريق وضع الاستراتيجيات والخطط اللازمة، وفي مقدمتها وثيقة مبادئ الخمسين، الصادرة في سبتمبر/ أيلول 2021، ورؤية «مئوية الإمارات 2071»؛ من أجل رسم خريطة المستقبل لمرحلة الخمسين المقبلة. ويتركز رِهان القيادة الإماراتية على الاستعداد لمرحلة ما بعد النفط في ترسيخ اقتصاد مفتوح ومتنوع، يتمتع بتنافسية عالية المستوى، تقود الطاقة المتجددة فيها النفطُ قاطرة التنمية.

[email protected]

* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/mr368723

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"