الفروقات الفردية والابتكار

00:41 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

يقاس نجاح أنظمة الحكم بمدى اهتمامها بالشعوب وتقديم الرعاية لها، ومناهج قيادتها والأخذ بيدها نحو التقدّم والتطوّر. فالشعوب لا تترك لحال سبيلها تلعب بها الرياح فتحملها إلى اتجاهاتها، ولم تُترك الشعوب لمصائرها في أي عصر من العصور، ولو حدث ذلك لأصبحت عرضة لاستقطاب أهواء وأفكار وأمزجة الباحثين عن المجد، فتتحول إلى كيانات لا يربطها رابط، وجزر متفرقة لا يحكمها حاكم، ولهذا لا بد من قيادة مركزية ترعى حاضرها ومستقبلها وتؤمّن لأجيالها الحياة الكريمة، وهذه المركزية لا تعني الاستبداد والاستحواذ بالقرار، ولهذا، كلّما تعقّدت المعطيات وتشابكت الظروف، تصبح الحاجة ملحّة إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وقانوني، ينضوي تحته الجميع، ويوفّر الأمن والاستقرار، وهو شرط لأي بناء مستدام.

وتأخذ القيادة الحكيمة في اعتباراتها الطبيعة البشرية المبنية على حرية الاختيار وإطلاق العنان للإبداعات والابتكارات، إذ كلّما مُنح العقل البشري الحرية في الإنتاج كلما كانت المخرجات متوافقة مع معايير الجودة، مع وضع ضوابط عامة ونظام عام يأخذ في الحسبان اعتبار المواهب الفردية والطاقات الخلاقة، التي ستكون نواة لأي حركة نهضوية نوعية في المجالات كافة.

لقد فشلت النظم الشمولية في تحقيق استدامة التنمية والإبداع، لأنها تعاملت مع الشعوب كقطعان جُنّدت لتجسيد فكرة واحدة رسمها قائد أو النظام، وتحقيق طموحات وأهداف حزب أو فرد، وسعت لخلق نسخ بشرية متطابقة ومتشابهة تساوي بين المبدع والعادي، ولا تلتفت للمميز والمختلف، ما أدى إلى التذمّر والتململ والخروج على النظام والمجموعة، وإيجاد معارضة قوية من المفكرين والمبدعين والفلاسفة، كما أدى في حالات كثيرة إلى خروج أو هروب المبدعين من أوطانهم، وطلب اللجوء السياسي أو الإنساني أو الاقتصادي، وهو في حقيقته لجوء ثقافي وفكري ووجودي يطمح إلى تأكيد الهوية الذاتية.

ومع انتشار ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ووجود منصات يصعُب السيطرة عليها، أصبح التحكم بالمجموع، أي الشعب، أو القطيع إن شئنا، مهمة صعبة، لكن النظام الشمولي لا يكلّ ولا يملّ ويستمر في المحاولة، فيمنع ويصادر، ويخلق أنظمته التكنولوجية الخاصة المقيّدة لأمور كثيرة، ولا يعلم أن العالم يراقب ويسجّل. وباختصار إن العالم اليوم مليء بالخيارات نتيجة التقدّم التقني، وأصبح بالإمكان لأي فرد خلق (جمهوريته أو مملكته) الخاصة، من خلال جهاز كمبيوتر صغير موصول بالأقمار الصناعية، حيث تتوفّر التطبيقات والبرمجيات. وبالقدر الذي رافق هذا التقدم من سلبيات فإنه ساهم في عزل الأنظمة الشمولية، ووفّر بيئة تتوافق مع من يتوق للحرية والعمل في فضاء مترامي الأطراف.

ومن حقنا هنا الحديث عن النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهو نظام ثقافي في جوهره، يرفض النظام الشمولي المتحكّم بحرية الأفراد ومصادرة إبداعاتهم، ويستند إلى الاعتراف بحرية الاختلاف، وإطلاق المواهب والتشجيع على الابتكار والإبداع، كما يحترم الثقافات ويتفاعل معها فيفيد ويستفيد، فتحدث عملية تفاعل حضارية تؤدي إلى بناء نظام يسوده الانسجام والاطمئنان والخير والسلام، كما تسوده قيم التسامح ونشر المبادئ الإنسانية على اختلاف مشاربها.

ولعلّ ما أنجزه المنهج القيادي في الإمارات، أنه نظر إلى الشعب كمشارك في اتخاذ القرار من خلال المبادرات والمقترحات والتشريعات، وتقديم الحلول المتقدمة الملائمة للعصر الحديث، كما أولى رعاية خاصة للمواهب والعقول المتفوقة والمخترعين، فأمّن لها ظروف الإبداع والعطاء، واحترم الفروقات بين الأفراد، فشجّع المبتكرين والمبدعين والمبادرين، حتى تحول منهج الابتكار إلى أسلوب حياة، فأدى إلى توفير خدمات متطورة جداً، ساهمت في جعل الدولة وجهة أولى للعمل والإقامة والاستثمار وتكوين الذات. ولم ينس المنهج القيادي الاستفادة من النظام الشمولي، فأطلق مبادرات جماعية بعد التمهيد لها ببرامج توعوية، وانسجمت هذه المبادرات مع سمات الشخصية الوطنية التي تتحلى بحب الوحدة والتآزر، وهي قيم تتوافق مع فطرة المجتمع، المؤمن بالإنسانية.

إن التجليات التي نلحظها الآن في المجتمع هي نتيجة إيمان بضرورة منح الفروقات الفردية فضاءات للحركة، فالحرية شرط الإبداع، والاستقرار شرط التنمية النوعية، فكان أن تحقّقت حياة نوعية نلحظ تجلياتها في الحياة العامة بكل وضوح. ونلحظها كثيراً في العمل الثقافي، حيث يرتفع سقف اللغة التعبيرية إلى مستويات جديدة، تتجلى في الأعمال الفنية والأدبية، كما تتضح في تعدد المؤسسات الثقافية والبرامج والفعاليات، وتم توظيف التقنيات الحديثة توظيفاً جيداً، فبرز العديد من المؤثرين، ونشير هنا إلى احترام الفوارق الفردية النوعية، فلا تمييز بين رجل وامرأة في مجال تقديم المحتوى.

وفي السياق ذاته، حارب الفكر الحديث الفكر الشمولي الديني والمذهبي، ونبذ التطرّف بكافة أنواعه، وأعاد الاعتبار لمفهوم الإرادة ومصطلح حرية الاختيار، وانعكس هذا على المجتمع من خلال تغيير قوانين الأحوال الشخصية، والعلاقة بين العامل ورب العمل، وحقوق الموظف بغض النظر عن نوعه، بل إن الحرية الفردية ذاتها نبتت لها أجنحة جديدة.

إن عصراً تحول فيه العالم إلى شاشة صغيرة بألوان قوس قزح، لا يمكن التعامل معه بمنطق الأبيض والأسود، أو من منظور ضيق، ومن يفعل ذلك، سيجد نفسه في عزلة تامة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4kduzvjm

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"