مفردات الحروب في الانتخابات الروسية

00:17 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. ناصر زيدان

انتهت الانتخابات الرئاسية في روسيا بعد ثلاثة أيام من فتح صناديق الاقتراع في مقاطعات وفيدراليات الاتحاد المنتشرة على مساحة تزيد عن 13.8% من اليابسة المأهولة في العالم، كذلك في سفارات البلاد في غالبية دول العالم، ولم تكن نتائجها مفاجئة على الإطلاق، فقد حصل الرئيس فلاديمير بوتين على ما يزيد عن 87% من أصوات المقترعين، بينما لم تتجاوز حصة المرشحين الثلاثة المنافسين له 12%، وهؤلاء ترشحوا وهم على إدراك تام بأنهم سيخسرون المعركة، وربما يكون ترشيحهم بهدف خدمة المنافس الرئيسي لهم، وليس لإلحاق الضرر به.

مهما يكن من أمر؛ فإن الانتخابات الرئاسية ليست تفصيلاً في الحياة العامة في روسيا، ولا هي محطة عابرة على مستوى السياسة الدولية. وعدم وجود منافسين جديين لبوتين لا يقلِّل من أهمية الاستحقاق، خصوصاً أن الانتخابات جرت في أعقاب محطتين داخليتين مُهمتين، هما: موت يفغيني بريغوجين قائد «مجموعة فاغنر» العسكرية بتحطم طائرته في الأجواء بالقرب من موسكو في آب/ أغسطس 2023، وموت المعارض البارز الكسي نافالني في السجن منتصف شباط/ فبراير الماضي. وكان الأول قد أعلن تبايناً عن «مُعلمه الرئيس بوتين» خلال مجريات الحرب في أوكرانيا، ونفذ انقلاباً فاشلاً مطلع العام 2023، بينما كان الثاني معارضاً شرساً لبوتين في الخارج والداخل، ومؤثراً في الرأي العام، قبل أن يُسجن بتهمة إساءة الأمانة في العام 2021. وقد نجح بوتين في تخطي مخاطر الحادثتين، وحدَّ من تأثيراتهما في عمليات الاقتراع، برغم أن مؤيدي نافالني وأرملته دعوا المواطنين الروس لتخريب العملية الانتخابية غير الشرعية كما قالوا، لكن تأثير هذه الدعوات كان محدوداً جداً.

المخاطر التي تواجه روسيا؛ أفادت العملية الانتخابية هي الأخرى، أكثر مما أضرَّت بها، ذلك أن خطاب بوتين قبل الانتخابات ركَّز على استخدام المفردات العسكرية، وحذَّر مراراً من المخططات التي تستهدف تركيع روسيا وإخضاعها، معتبراً أن روسيا عصيَّة على التطويع، ولا تقبل أي هزيمة، وأن جيشه سيستخدم السلاح النووي إذا ما تعرضت روسيا لخطرٍ خارجيٍ داهم. وروسيا هي الدولة الأولى في العالم لناحية امتلاكها أكبر ترسانة عسكرية نووية على الإطلاق، وعندها ما يزيد عن 7300 رأس نووي حربي، بينما لدى الولايات المتحدة الأميركية 6970 رأساً.

الجمهور الروسي يتأثر الى حدٍ بعيد بثقافة القوة، ولا يقبل بأن تكون بلاده ضعيفة بين الأمم. وبوتين دخل من هذا الباب العريض الى مركز القيادة الرئيسية في روسيا، عندما كان رئيساً للوزراء في السنة الأخيرة من القرن الماضي، وتمكن من هزيمة المشاريع الانفصالية التي كانت تهدد وحدة روسيا في القوقاز وفي تتارستان وغيرهما، وضرب المعارضين بيدٍ من حديد، وتمكن من هزيمتهم، ثمَّ ترشح لرئاسة الاتحاد وتولَّى الموقع منذ مطلع العام 2000، ومازال يحكم حتى اليوم، برغم أن حليفه وصديقه ديمتري ميدفيديف تولَّى منصب الرئاسة عنه لمدة 6 سنوات، وتسلم بوتين رئاسة الحكومة، لأن الدستور لم يكُن يسمح لبوتين بالترشح لولاية رئاسية ثالثة، وقد تمَّ تعديل الدستور في العام 2020، مما مكَّن بوتين من إعادة الترشح لولايات متتالية.

بوتين الذي دخل عامه ال71 ؛ يعتبر نفسه مختلفاً عن قادة الدول الغربية الكبرى، فهو ليس كالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي يستهلك معظم وقته أمام تحقيقات المحاكم، ويختلف عن الرئيس الحالي جو بايدن، كونه لا يسمح بحصول أي هفوة ولو غير مقصودة، ولا يخاف من دعايات «السوشيال ميديا» كما زعماء الغرب الكبار، ولا يُعير اهتماماً إلا لمصلحة روسيا والدفاع عن شعبها ومكانتها. وروسيا تختلف عن الدول الغربية، كما قال بوتين في «خطاب النصر» الذي ألقاه في موسكو أمام المؤيدين بعد صدور نتائج الانتخابات.

من المؤكد أن لدى بوتين خططاً جديدة سيواجه بها التحديات الكبيرة. وهو لن يتساهل بالموضوع الأمني، برغم أن الهمّ الاقتصادي يشغل باله كثيراً، لأن العقوبات التي يفرضها الغرب على بلاده على خلفية الحرب في أوكرانيا كبيرةٌ جداً، وقد تمكَّن من تحقيق بعض الاختراق لناحية إعادة النشاط الى صادرات بلاده من الغاز الى أوروبا، وعن طريق الأراضي الأوكرانية، نظراً لكونها المنافس القوي من حيث الأسعار، وسهلة الوصول الى أسواق دول الاتحاد، كما أنه أنجز انتعاشاً واضحاً في النمو الاقتصادي لروسيا خلال السنة الماضية، برغم كل العقبات التي تواجهه، وتعززت تجارته مع الصين ومع الدول الإفريقية.

بوتين الذي يحكم روسيا منذ ما يقارب ربع قرن، سيتجاوز بعدد سنوات حكمه القائد الشيوعي جوزيف ستالين الذي تربع على عرش الاتحاد السوفييتي 30 عاماً.

يتهم خصوم بوتين في الداخل وفي الخارج الرجل بأنه مُتشدد، ولا يحترم معايير الديمقراطية، وبأنه يخوض حرب إبادة ضد أوكرانيا، بينما يعتبر بوتين نفسه ديمقراطياً من الطراز الرفيع، لكن مفهوم الديمقراطية لديه يختلف عن النزعة الغربية التي تحركها ثقافة لا تحترم القيم التي تتمسَّك بها بلاده، وأن بعض الحركات المعارضة؛ ممولة من جهات خارجية لديها طموح بتفكيك روسيا وإضعاف مكانتها في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"