غبار على الثوب الصيني

01:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

تتجنَّب الصين الدخول في تفاصيل الأحداث في المنطقة العربية الشرق أوسطية، أو ما تسميها بكين منطقة الغرب الأوسط، وهي تُقيم علاقات دبلوماسية وتجارية مع جميع الأطراف، ولها صداقات سياسية مميزة مع بعض الدول المشاركة في خطة «الحزام والطريق»، من دون أن يصل ذلك إلى نسج أحلاف مع قوى ضد قوى أخرى، وفقاً لنهج براغماتي مرن، هدفه تحقيق ربحية تجارية وحضور سياسي وتوسيع مروحة الصداقات الخارجية.

الحرب الدائرة في المنطقة أحرجت الصين، وحاولت الأخيرة التوسُط للوصول إلى وقف لإطلاق النار في غزة، من خلال زيارة قام بها المبعوث الصيني هو تشاي جيون إلى الدول العربية المعنية وإسرائيل، بالتزامن مع مباحثات أجراها وزير الخارجية وانغ يي مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في واشنطن نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لكن هذا الحراك لم يصل إلى النتيجة المرجوة، وتزايد التوتر الذي كانت تخشاه بكين.

ترى الصين أن الصراع في الشرق الأوسط يضرُّ بمصالحها الاستراتيجية، بينما الهدوء في هذه المنطقة الحساسة من العالم يناسب هذه المصالح، على اعتبار أن تبادلها التجاري مع الدول العربية زاد على 431 مليار دولار العام الماضي، وحتى تبادلاتها مع إسرائيل وصلت إلى ملياري دولار، بينما تعتمد الواردات النفطية الصينية بأكثر من 50 في المئة على إنتاج الدول الشرق الأوسطية – خصوصاً العربية منها – وتمرّ أكثر من 30 في المئة من صادراتها عبر البحر الأحمر.

ومن خلال هذه الوقائع تحاول بكين تجنُّب الدخول في صراعات جانبية، وتحرص على إبقاء علاقاتها طيبة مع الجميع، من دون إخفاء تعاطفها التاريخي مع القضية العادلة للشعب الفلسطيني، وهي بالفعل وقفت إلى جانب المبادرات التي كانت تهدف لتحقيق وقف إطلاق النار في غزة، بتصويتها إلى جانب الاقتراح الذي قدمته الإمارات العربية المتحدة في مجلس الأمن، الذي أجهض بالفيتو الأمريكي، وأيضاً في التصويت مع القرار الذي صدر بذات الهدف عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي.

بكين متضررة من التوترات التي تجري في المنطقة، وربما تكون مستهدفة على ما يقول خبراء متابعون، لكنها تتجنَّب الاعتراف بكونها جزءاً من التعقيدات الدولية القائمة، وتحاول أن تبقي علاقاتها جيدة مع الجميع، بما في ذلك مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة. وهي تدرك أن مآلات الوضع في البحر الأحمر لن تكون في صالحها، واستمرار التوتر سيؤدي إلى مخاطر على التجارة الدولية، وإلى إيجاد طرق بديلة عن المرور فيه طويلة جداً ومُكلفة، والتأمينات على عمليات الشحن من خلال هذا البحر سترتفع بشكلٍ كبير. وسكوت الصين على سيطرة أمريكية – بريطانية بالشراكة مع اليابان وآخرين على البحر هو أيضاً ليس في صالحها، وقد تنتج عنه حساسيات مستقبلية، في ظل وجود قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي. إضافة إلى العلاقات الأمريكية – الصينية المرشحة لمزيد من التوتر على خلفية الانتخابات التي جرت مؤخراً في جزيرة تايوان.

البراغماتية الصينية في التعاطي مع الملفات الساخنة في المنطقة لم تكن محل ترحيب من عدة دول في المنطقة، لأن البعض كانوا يتطلعون لمساندة أكبر من قبل بكين لقضية الشعب الفلسطيني، ولإعلاء صوتها في المحافل الدولية من أجل فرض وقف فوري لإطلاق النار في غزة، والبدء بالعملية السياسية لتسوية النزاع عن طريق توفير أرضية مناسبة لحل الدولتين الذي اقترحته قمة بيروت العربية في العام 2002.

فهل ستتمكن الصين من الحفاظ على اعتماد هذه المقاربة الهادئة بعد أن أصاب ثوبها غبار كثيف من منطقة مهمة تؤثر جوهرياً على مستقبل تجارتها الدولية، وعلى مكانتها العالمية؟ خصوصاً بعد أن أكدت الدراسات الموضوعية أن الاقتصاد الصيني سيحتل المرتبة الأولى في العام 2030 إذا ما بقيَ على منسوب التنامي الحالي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/bdh33axf

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"