حصان من «ملتين»..

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

.. خرج العشرات من الكتّاب والشعراء والروائيين والرسّامين، والأطباء الناجحين، والمهندسين البارعين في المعمار من بيئات فقيرة على الأغلب، آباؤهم مزارعون أو حرّاثون أو مستخدمون عند أصحاب الأرض. الملّاك، وكانت أمهاتهم قويات كالحجارة، على الرغم من الفقر والضعف والعمل الطويل في الحقول، ورعاية العائلة والماشية في آن واحد..

كانت المرأة تربّي الحَمَلْ (صغير الخراف)، كما تربي صغيرها الإنسان الصغير الغض هو الآخر، وكان الفلّاح يربي الشجرة، كما يربي ابنته..

من ذلك الاتساع المكاني والإنساني.. خرج للعالم أجمل شعرائه، وكتّابه، ومفكّريه.. لا يهم المكان آنذاك، وليس مهمّا الأكل والثياب واللعب، بل، كأن أولئك يلعبون بفقرهم، ويحوّلونه إلى سعادة تشبه سعادة أبناء الملوك..

خرج بدر شاكر السياب من نهر صغير في جنوب العراق، وكان حنا مينة حمّالاً في الموانئ، وأجمل قصص إميل زولا جاءت من ضواحي باريس الجافة المعدمة، وكتب ناظم حكمت رواية (غنائية) من الدموع، وأجمل أشعار حسب الشيخ جعفر ولدت في الطرقات الزراعية في العراق، ولولا الإلهام الإنساني النبيل الذي التقطه (فيكتور هيجو) من ذلك اللص البائس الذي سرق ملعقة، مجرد ملعقة، لما كان حياً في فرنسا وفي العالم كله إلى الآن..

.. لا تستهن بالفقر، ولا تحذفه من الصورة الكلية التي أنت عليها الآن مهما كنت طويل القامة وعريض الأكتاف كما يقولون..

.. أوّل صور التكوين الفني عند أبناء الفقراء تلك المواد التي كانت تشكل أعمالاً جميلة صغيرة على مقاعد المدرسة.. هل تذكر، إذا كنت من أولئك الأبناء تلك المادة التي تُسمّى «الملتين»..

«الملتين» مادة عجينية بأنواع ملونة، طرية، ورائعة حين تُلوى برفق بين الأصابع، وكان مدرّسو الرسم يوزّعون على الطلبة الابتدائيين قطعاً مكتملة من «الملتين»، وكل تلميذ، يصنع شجرة، حيواناً، تمثالاً، جرّة، منزلاً، عصفوراً، بيتاً، قفصاً، سيفاً.. أي شيء يخطر على باله..

كان أبناء المزارعين من أولئك التلاميذ في تلك المدارس الأولى في الأرياف يصنعون من «الملتين».. الأحصنة، والمحاريث، وما يشبه أرغفة الخبز، وشيئاً ما يشبه الثياب.

بعد سنوات من عمل أبناء الفقراء على مادة «الملتين» توصّل الفنان المعلم إلى ذلك الأرشيف المادّي العجيني، وحين أمضى وقتاً طويلاً في مشاهدة هذه الأعمال الفنية الفطرية، وجد أن أجملها دائماً هو (الحصان)..

حصان من (الملتين) أو حصان من العجين. حصان ناحل جميل واقف وحده في اللوحة الصامتة، كان يصهل، ويعطي للولد الصغير أوّل اعتراف له بأنه فارس، وأنه.. فنان..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n757nkz

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"