عادي
رجل يوليو الصامت مؤسس جهاز المخابرات العامة

زكريا محيي الدين تاريخ من الأسرار

05:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
منذ خروجه عن أضواء السلطة عقب نكسة العام ،1967 وزكريا محيي الدين يثير بصمته وعزلته الاختيارية فضول كثيرين، ليس فحسب بما يملكه من معلومات تتعلق بأدق تفاصيل تجربة الضباط الأحرار، باعتباره أحد أبرز هؤلاء الضباط الذين غيروا ملامح تاريخ مصر الحديث في عام ،1952 وإنما أيضاً بما تضمنه خزانته من أسرار تتعلق

بأدق تفاصيل التجربة الناصرية، وما شهدته دولة عبدالناصر من أحداث كبرى، وقد آثر الرجل منذ انسحابه من الحياة العامة في بدايات عام 1968 أن يظل صامتاً، مغلقاً خزائن أسراره بألف مفتاح، ورافضاً على مدار عقود العديد من العروض بأن يفتح جزءاً من هذه الخزائن، رغم أن كثيراً من هذه العروض يسيل لها اللعاب .

على مدار أكثر من أربعين عاماً ظل زكريا محيي الدين هو الاستثناء الوحيد، بين من بقوا على قيد الحياة من ضباط ثورة يوليو وقادتها، إذ لم تغوه الأضواء أو حتى الملايين التي عرضت عليه لتسجيل مذكراته، في أن يفرج عما يملكه من معلومات أو يفتح خزائنه التي تحوي الكثير، منه ما يتعلق بما شغله من مناصب متعددة على مدار السنوات الخمس عشرة الأولى من حياة ثورة يوليو، بداية من عمله كوزير للداخلية في حكومة الثورة الأولى، ومشاركته في تأسيس أول جهاز للمخابرات العامة في مصر، ثم ترأسه له لفترة، حتى أصبح أول نائب لرئيس الجمهورية ورئيساً للوزراء .

ظل زكريا محيي الدين يؤكد لكل من حاولوا الاقتراب من خزانة أسراره أنه لا يملك سوى رؤيته وحده لما شهدته مصر طوال الفترة التي كان قريباً فيها من صنع القرار، ومن ثم فإنه لا يملك سوى رؤية أحادية لما حدث، ويخشى إن تحدث أن يعرض جزءاً من حقائق كبرى، تدور حول الصورة الكاملة ولا تقترب منها بالعمق المطلوب، هو ما دفع كل من حاولوا استنطاقه إلى التوقف عن المحاولة، ليضفي مزيداً من الاحترام على شخصية ظلت على امتداد حياتها جديرة به .

ربما يكفي لزكريا محيي الدين أن يكون هو الأب المؤسس لأول جهاز وطني للمخابرات العامة في مصر، وهو الجهاز الذي لعب على مدار عقود من تأسيسه ولا يزال العديد من الأدوار الوطنية البارزة، ليس فحسب في حماية الأمن القومي المصري، وإنما أيضاً في تعظيم مكانته في محيطه الإقليمي والدولي، وقد شرع محيي الدين في تأسيس الجهاز في العام التالي للثورة مباشرة بتكليف خاص من الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ليخوض هذا الجهاز العديد من المعارك الكبرى بعد تأسيسه بشهور معدودة، كان في مقدمتها قيادة وتوجيه المقاومة ضد الاحتلال البريطاني في منطقة قناة السويس، وتبني العديد من العمليات الفدائية بهدف الضغط على الحكومة البريطانية على مائدة التفاوض للقبول بالانسحاب الكامل من مصر، وقد توجت تلك العمليات على أرض الواقع بعد ذلك بشهور قليلة بالتوقيع على اتفاقية الجلاء وانسحاب آخر جندي بريطاني من مصر في 18يونيو/حزيران عام 1956 .

لم يكد محيي الدين ورفاقه يلتقطون أنفاسهم من معركة الجلاء، حتى تعرضت مصر للعدوان الثلاثي، وقد عاد الجهاز ليخوض تحت رئاسته معركته الثانية التي توجت بجلاء قوى العدوان الثلاثي عن مصر في 23 ديسمبر/كانون الاول عام ،1956 ليبدأ مرحلة جديدة من العمل خارج الحدود ليس فحسب من أجل حماية أمن مصر القومي، وإنما تعزيزاً لدورها الإقليمي في دوائر الثورة ومحيطها العربي والإفريقي والإسلامي ودول العالم الثالث، وحركات التحرر الوطني .

ولد زكريا محيي الدين في الخامس من يوليو/تموز عام 1918 في مدينة كفر شكر التابعة لمحافظة القليوبية، فتلقى تعليمه الأولى في أحد كتاتيب القرية شأنه في ذلك شأن مجايليه من أبناء الأسر الميسورة، ليواصل فيما بعد تعليمه الأساسي ويلتحق بالمدرسة الحربية في 6 أكتوبر/تشرين الأول عام ،1936 ويتخرج فيها برتبة ملازم ثان في عام ،1938 ليلتحق بالعمل ضابطاً في كتيبة بنادق المشاة في مدينة الإسكندرية، التي انتقلت سريعا إلى منقباد في عام 1939 ليلتقي هناك برفيقه جمال عبدالناصر، ويقضيان فترة من الزمن، قبل أن تتحرك كتيبته إلى السودان في عام 1940 . المؤكد أن الأقدار قد لعبت دوراً في اللقاء الثاني الذي جمعه والزعيم الراحل جمال عبدالناصر، إذ سرعان ما التقى الاثنان مجدداً في السودان، فيما كان ثالثهما عبدالحكيم عامر، لتلعب الأقدار دورها مرة أخرى ويلتقي الثلاثة مجدداً في فلسطين، بعد تخرج محيي الدين في كلية أركان الحرب عام ،1948 وسفره بعدها ضمن الكتائب المصرية التي سافرت إلى فلسطين لقتال العصابات الصهيونية، وقد أبلت كتيبته بلاءً حسناً في المجدل وعراق سويدان والفالوجة ودير سنيد وبيت جبريل .

توطدت علاقة زكريا محيي الدين بجمال عبدالناصر على نحو لافت أثناء حصار الزعيم الراحل في الفالوجة، إذ تطوع محيي الدين وصلاح سالم بمهمة الاتصال بالقوة المحاصرة في الفالوجة، وتوصيل إمدادات الطعام والدواء لها، وقد توطدت علاقة الثلاثة في تلك الفترة، وزادت أواصر الروابط بينهم بعد انتهاء الحرب، وعودتهم إلى القاهرة، ليعمل محيي الدين مدرساً في الكلية الحربية ومن بعدها مدرسة المشاة .

انضم زكريا محيي الدين إلى تنظيم الضباط الأحرار، حسب روايات متعددة، قبل قيام الثورة بنحو ثلاثة أشهر، وقد كان ضمن خلية يترأسها جمال عبدالناصر، ويقول رفاقه من ضباط التنظيم في شهاداتهم إنه لعب دوراً كبيراً في وضع خطة التحرك للقوات، وقاد بنفسه الفرقة التي حاصرت القصور الملكية في الإسكندرية . على امتداد حكومات ثورة يوليو المتعاقبة تولى محيي الدين العديد من المناصب، ربما كان من أهمها وزارة داخلية الوحدة مع سوريا في العام ،1958 وقد عينه الرئيس جمال عبدالناصر فيما بعد رئيساً للجنة العليا للسد العالي في مارس/آذار ،1960 ثم نائباً له يختص بشؤون المؤسسات، ووزيراً للداخلية للمرة الثانية في عام ،1961 قبل أن يصدر في عام 1965 قراراً بتعيينه رئيساً للوزراء ونائباً للرئيس، ليشارك في العديد من المؤتمرات الدولية الكبرى التي لعبت مصر دوراً مؤثراً فيها، وفي مقدمتها مؤتمر باندونغ، إلى جانب جميع مؤتمرات القمم العربية والإفريقية ودول عدم الانحياز، فيما بدا وقتها وكأن الرئيس جمال عبدالناصر يعده لتولي مهمة كبرى، أعلن عنها بنفسه في خطاب التنحي، قبل أن يفاجأ الاثنان بالملايين تخرج لتطالب عبدالناصر بالبقاء .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"