الديمقراطية الأمريكية في أصعب اختباراتها

02:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد السعيد إدريس

الولايات المتحدة باتت مقبلة على تطورات داخلية مهمة وأن ما يحدث الآن من احتجاجات وأعمال عنف في مدنها قد لا يكون إلا مجرد بدايات لأحداث أكثر مأساوية

على مدى عقود طويلة مضت، اعتادت الولايات المتحدة أن تجعل من نفسها حَكماً على صلاحية ورجاحة نظم الحكم في معظم دول العالم، من منظور مدى ما تتمتع به هذه النظم من المعايير والقيم الديمقراطية. ولم تفعل الولايات المتحدة ذلك لكونها أقوى دولة في العالم فقط، وأن من حقها، كما تعتقد، أن تتعامل مع الدول الأخرى باعتبارها «حكومة عالمية»، وأن تعطي لنفسها ليس حق التوجيه والنقد فقط، ولكن «حق التدخل» بالشكل الذي تراه، لكنها كانت تفعل ذلك أيضاً باعتبارها تمثل «الحصن الحصين للديمقراطية في العالم»، ما يعني أنها وحدها من يملك حق أن تفرض نفسها كمحكمة للقيم الديمقراطية في العالم، وأن تصدر الأحكام وتقرر العقوبات على كل من يستحقها، من وجهة نظرها.

ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل إنها كانت تتعمد دائماً التستر على جرائم بشعة من الحكم الاستبدادي، والفساد السياسي والمالي لحلفائها، وأن تتدخل للدفاع عنهم ضد إرادة شعوبهم، وكثيراً ما تدخلت لإخماد ثورات، ضد إرادة الشعوب، مثلما تدخلت للقيام بانقلابات لإسقاط حكومات مدعومة من شعوبها.

وكانت الولايات المتحدة تفعل ذلك وهي تتباهى بأنها تعتبر «قلعة الديمقراطية» في العالم، وأنها، بحكم كونها قلعة ديمقراطية، هي «الدولة المحصنة» ضد كل أنواع الاضطرابات، وأعمال العنف لأن شعبها ليس لديه دوافع تجعله يفكر في مثل هذه الأفعال لأنه «يعيش الرخاء وينعم بالديمقراطية».

كل هذا الآن أضحى في بؤرة الاختبار في ظل الموجة غير المسبوقة من الاحتجاجات الشعبية التي فجّرها القتل البشع الذي قام به شرطي أمريكي أبيض، ضد المواطن الأمريكي من أصل إفريقي «جورج فلويد» أثناء توقيفه في مدينة مينيابوليس، بولاية مينيسوتا. فقد أدت هذه التظاهرات الاحتجاجية إلى كشف المستور في المجتمع الأمريكي، ليس فقط العنصرية المتجذرة ضد كل من لا ينتمي إلى «العرق الأبيض»، ولكن كشفت أيضاً انشطار المجتمع الأمريكي رأسياً، إلى حاكمين، أو طبقة حاكمة تملك السلطة بكل مؤسساتها، ومنها مؤسستا الشرطة والعدالة، أي المحاكم، وتملك الثروة، وترى نفسها، كما هو حال أقرانها في المجتمعات المتخلفة «أصحاب المصالح الحقيقية في البلاد»، وإلى محكومين، وهم الأغلبية الشعبية في كل الولايات الذين يجمع بينهم «التمييز»، ليس بسبب لون البشرة فقط، ولكن أيضاً بسبب العشرات من المعايير غير الديمقراطية التي تتعارض مع أصول ومبادئ الحكم الديمقراطي.

ويؤكد هذه الحقيقة أن حاكم البيت الأبيض، وإدارته، وأجهزة القمع، كانوا في جانب طيلة الأيام الماضية، وكان الشعب الأمريكي، بكل طوائفه، على الجانب الآخر. ولم تقتصر تظاهرات الاحتجاج على أصحاب البشرة السوداء، بل شملت أطيافاً واسعة من الأمريكيين من كل الأصول العرقية، وفي المقدمة منهم أصحاب البشرة البيضاء.

فالعنف المفرط الذي قامت به الشرطة وقوات الحرس الوطني التي دفع بها ترامب لترهيب المتظاهرين، واستخدام الرصاص المطاطي، وقنابل الغاز، وإصابة واعتقال الآف المتظاهرين، وتحريض الرئيس لحكام الولايات على ضرورة التوسع في الاستعانة بقوات الحرس الوطني، تؤكد أن المجتمع الأمريكي لا يختلف في جوهره عن بقية المجتمعات الأخرى. وتؤكد أن هناك طبقة حاكمة هي من تملك كل شيء، وهناك شعب بمئات الملايين عليه أن يرضخ وينصاع إلى أوامر من يحكمونه.

قد لا تكون هذه الحقيقة المؤسفة حديثة العهد، أو هي إفراز متفرد للأزمة الحالية، لكن تأكيدها الآن له أهميته في ظل حقائق أخرى متزامنة لا تقل أهمية، فهي تؤكد من ناحية أن المجتمع الأمريكي لم يعد، وربما لم يكن، المجتمع الديمقراطي النموذجي، وأنه كغيره من نظم الحكم في معظم دول العالم مفعم بالتمييز، والممارسات التسلطية، و«فحش السلطة»، لكن أهميتها الآن تأتي في وقت أثبت فيه النظام الحاكم عجزه وفشله في القيام بأهم وظائف أي نظام سياسي، وفي المقدمة منها حماية أرواح مواطنيه، والاهتمام بحياتهم، على نحو ما كشف العجز في التصدي لجائحة كورونا، كما تأتى في وقت تستعد فيه الولايات المتحدة لخوض الانتخابات الرئاسية في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، ما يعني أن هذه الاحتجاجات ستكون محدداً أساسياً لاختيارات الناخبين في هذه الانتخابات، لكن الأهم أنها تتزامن مع أفول المكانة العالمية للولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وظهور قوى عالمية كبرى منافسة تتزعم الدعوة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.

ومناشدة أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، على لسان المتحدث باسمه، الإدارة الأمريكية ضرورة ووجوب التحقيق في أعمال العنف التي ارتكبتها الشرطة ضد المتظاهرين، واندلاع تظاهرات خارج الولايات المتحدة مؤيدة لتظاهرات الاحتجاج الأمريكية خاصة في كندا، والمملكة المتحدة، ونيوزيلندا، تؤكد أن الولايات المتحدة باتت مقبلة على تطورات داخلية مهمة، وأن ما يحدث الآن من احتجاجات وأعمال عنف متبادلة بين المتظاهرين وقوات الأمن قد لا يكون إلا مجرد بدايات لأحداث أكثر مأساوية، إما أن تصحح المسيرة الديمقراطية الأمريكية، وإما أن تسقط أسطورة هذه الديمقراطية التي تواجه أصعب اختباراتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"