قواعد لعبة دولية غير مسبوقة

03:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
فيصل جلول

تسبب انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة بما يشبه الزلزال المتعدد الارتدادات، فبلاده هي القوة الأكبر في العالم وكانت حتى وقت قريب، القوة الوحيدة وبالتالي، فإن هوية وسياسة رئيسها تعني العالم بأسره. بيد أن شخصية الرجل وكلامه، لا يشبه شخصية ولا كلام من سبقه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من حيث عزمه على إعادة النظر بكل شيء تقريباً.
فعلى الصعيد الداخلي يصر على تفكك الإنجازات التي حققها أوباما وطرد 3 ملايين مهاجر وبناء جدار عازل مع المكسيك ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة إلا بشروط قاسية، واعتماد نظام الحماية للمنتجات الأمريكية، وبالتالي الخروج من منظمة التجارة العالمية.. إلخ.
وتبدو سياسته الخارجية -كما تبدو من عناوينها- متناسبة تماماً مع تفكيره الفوضوي، فهو يريد «التفاهم مع روسيا» ولا يهمه مصير دول البلطيق حتى يخاطر «بحرب نووية مع موسكو من أجلها»، ولا يريد تحمل نفقات الأطلسي، ويعتبر بروكسل مقر الحلف ك«جحر الفأرة» وعندما يصحح يقول إن «بلجيكا مدينة جميلة»، وسيستخدم النووي في أوروبا والشرق الأوسط إن اقتضت مصالحه. النقطة الوحيدة التي يلتقي فيها مع من سبقه من الرؤساء تتعلق ب«إسرائيل» التي يتعهد أمنها وحمايتها، بل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس كما لم يجرؤ أي رئيس أمريكي من قبل.
موجز القول إن هلعاً يسود العالم منذ أيام. فبينما يطمئن البعض أنفسهم بالقول إن الرجل سيتغير، وإن كلامه الانتخابي كاذب، يعتبر آخرون أنه انتخب وفق وعوده ولن يعمل على الضد منها تحت طائلة الانحدار إلى درك أسفل، بل إن أقواله تلبي مواقف قسم واسع جداً من مواطنيه، وإن نجاحه يدين به لصدقه في التعبير عن إرادتهم.
لكن الهلع الأكبر يكمن في أوروبا التي استقبلت انتخاب ترامب بأفواه فاغرة، وكأنها استيقظت على كابوس مرعب. الهلع والارتباك الأوروبي يمكن ملاحظته عبر حديث جان كلود جونكر رئيس المفوضية الأوروبية الذي قال عن ترامب «سنعلمه من هي أوروبا ولعله يحتاج إلى جولات عالمية لمدة سنتين حتى يتعلم ويكتشف العالم الذي يجهله». في حين دعت مفوضة الشؤون الخارجية فيديريكا موغريني إلى عشاء عمل عاجل لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي للبحث في كيفية الرد على ترامب مساء الأحد الماضي، علماً بأن الوزراء أنفسهم عقدوا في اليوم التالي اجتماعهم الأسبوعي، وكان بوسعهم أن يغيروا جدول الأعمال.
هذا الارتباك يمكن النظر إليه من زاوية تراكم الأزمات والتحديات في أوروبا، التي ما كانت بحاجة أبداً لمثل هذا الزلزال. فهي تعاني أزمة الهجرة التي لم تجد حلاً لها بعد، ومن تهديدات إرهابية داهمة فضلاً عن خروج بريطانيا من الاتحاد وأزمة اقتصادية وأزمة بطالة وصعود التيارات الشعبوية والعنصرية، فضلاً عن ارتداد الأزمات الأوكرانية والليبية والسورية والتحدي الروسي الجديد الذي يوقظ تواريخ توتر أشبه بكوابيس منسية... إلخ.
في هذا الوقت بالذات يقرر ترامب أن بلاده لن تكون مستعدة من الآن فصاعداً لتحمل نفقات حلف الأطلسي بنسبة الثلثين، وأنه إذا ما أرادت أوروبا الحماية من الحلف عليها أن تتحمل نصيباً أكبر من تكاليف عمله، وأنه عازم على إعادة صياغة العلاقات مع أوروبا.
طبعا هناك أيضاً قضية التجارة الحرة وعزمه على اعتماد سياسة حمائية لمنتجات بلاده، ولن يطبق ما اتفق عليه مع الأوروبيين في مجال مكافحة التلوث البيئي. بتعبير آخر يمكن القول إن ترامب يطرح على أوروبا إعادة النظر في علاقات رست بعد الحرب العالمية الثانية على موازين قوى يرى أنها ما عادت مناسبة لاستمرار العلاقات بين ضفتي الأطلسي.
من جهته أعطى الأمين العام للحلف الأطلسي «يانس ستولتنبرغ» ترامب الحق جزئياً، ودعا أوروبا إلى إعادة النظر في حجم مساهمتها في نفقات الحلف وفي نطاق عمله، والراجح أن يؤدي مثل هذا التراجع إلى تمسك ترامب بمواقفه المتصلبة، التي يسوقها في الداخل بوصفها محصلة للأولويات وللمصالح الأمريكية قبل كل شيء.
طبعاً لا نهمل في هذا السياق مواقف ترامب من الصين واليابان وكوريا وغيرها، وهي مواقف تعبر عن تصميم على تحويل أقواله وسياساته إلى أفعال، الأمر الذي ينقلنا إلى مستوى آخر من النظر إلى القادم إلى البيت الأبيض، وإلى ما يشبه المنعطف في سياسة واشنطن الداخلية والخارجية، هذا المنعطف الذي يتعدى على الأرجح شخصية ترامب الانفعالية إلى طبيعة الموقع الذي تحتله واشنطن في هذه اللحظة والتكيف معه.
في هذا الجانب يمكن القول إن التغيير الاستراتيجي في عهد أوباما وتبديل الأولويات في السياسة الخارجية من الشرق الأوسط إلى الجوار الصيني هو صيغة متروية لما يريده ترامب كاندفاعة إلى الأمام، حيث لا حروب بكلفة أمريكية حصرية، ومن دون مصالح استراتيجية أمريكية فيها، وحيث لا احترام لعولمة تتحمل واشنطن تكاليفها منفردة، وتسلب الأمريكيين قسماً مهماً من قواعدهم الإنتاجية. بكلام آخر يصرخ ترامب بصوت عال مردداً ما يقوله بيض أمريكا الريفيون بصوت منخفض، وما بدأه «الاستبلشمانت» جزئياً على الصعيد الخارجي. الفارق في الحالتين هو الصياغة والتدرج من جهة، والخطب الرنانة والغوص فوراً في الحلول من جهة أخرى.. أما منطقتنا العربية فلربما يجدر بها أن تصمت فيها المدافع وأن تستعد على غرار الأوروبيين للتعاطي مع قواعد لعبة دولية غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"