العلاقات العامة في زمن العولمة

03:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. إدريس لكريني

العلاقات العامة نشاط إنساني يرمي إلى تحقيق نوع من التواصل بين مختلف المؤسسات ومحيطها الداخلي، أي بين مختلف مكوناتها من إداريين وعاملين وموظفين، والخارجي، بينها وبين الجمهور والمتعاملين. وهي تتأسّس على مجموعة من الضوابط والسلوكات، وعبر وسائط ووسائل مختلفة، بغية كسب قدر من الرضى والتأييد لنشاطاتها في أوساط الجماهير والمتعاملين.
وعادة ما ترتبط إدارة العلاقات العامة بمختلف الشركات والمؤسسات التربوية والتعليمية، والأحزاب السياسية، ومختلف المؤسسات والإدارات الحكومية.. ويعتبر الإقناع والتأثير والتسويق المحركات الأساسية لهذه العلاقات في كل العصور والأزمنة، وقد ارتبط الأمر بالدين والسياسة في أغلب الأمر.
وتنطوي العلاقات العامة على أهمية كبرى بالنسبة لأداء المؤسسات ومخرجاتها، وهناك عنصران أساسيان يفترض أن تتأسس عليهما العلاقات العامة، وهما البحث العلمي بما يحيل إليه الأمر من عقلنة، وتقنيات الاتصال، وما يرتبط بها من تواصل.
فالبحث العلمي يسمح بمعرفة علمية ودقيقة لآراء الجمهور، وانطباعاته، ومواقفه، وانتظاراته، ومتطلباته في علاقتها بالمؤسسة بحسب اهتماماتها ومجال عملها (اقتصادية، وسياسية، وتجارية، وصناعية..)، كما يوفر المعطيات التي تسمح باتخاذ قرارات ملائمة وعقلانية بعيداً عن الارتجال والعشوائية والتسرع، تسمح بتطوير المؤسسة، وتعزيز مردودها.
أما تقنيات الاتصال فهي تلعب دوراً محورياً في هذه العلاقات من حيث تحقيق التواصل بين المؤسسة والجمهور، سواء على مستوى الإقناع، أو الاستقطاب.. وبالنظر لصعوبة الاتصال المباشر، وعدم فعاليته في كثير من الأحوال، أصبحت الكثير من المؤسسات تلجأ إلى مجموعة من الوسائل والتقنيات الحديثة لتحقيق أكبر قدر مهم من التأثير واستهداف أكبر عدد من الناس.
وقديماً، تميزت الوسائل المستعملة في هذه العلاقات بطابعها التقليدي، حيث تم توظيف الفن المعماري، والنصب، والمعالم العمرانية الكبرى (أهرام، وحصون، وحدائق..) للتأثير في سلوكات وأفكار واتجاهات الأفراد، والترويج للحكام، وتخليد ذكراهم.
ولا يخفى دور الشعر وفن الخطابة في التأثير في الناس، فاللغة السليمة والبلاغة كلها عناصر كان يستعملها الزعماء في خطاباتهم أمام الجماهير، وهي تعد من الوسائل الناجعة في إقناع الناس على اختلاف مستوياتهم.
وتطورت أساليب العلاقات العامة في العصور الحديثة من حيث وسائلها وتأثيراتها. ففي بداية القرن التاسع عشر، ظهرت ملامح التطور في هذه العلاقات بشكل احترافي داخل بعض المؤسسات في كل من بريطانيا وألمانيا، بعدما تحولت إلى أسلوب عصري ينسجم مع تطور الصناعة والتجارة، والرغبة في إقناع الجماهير بالاستهلاك، والقبول بالتحولات المختلفة التي شهدتها المجتمعات الأوربية في أعقاب الثورات الاجتماعية والصناعية التي حدثت في عدد من الدول الغربية.
وقد تطورت العلاقات العامة بشكل ملحوظ ومتسارع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مع تأسيس مجموعة من المعاهد والهيئات المتخصصة في هذا الشأن في كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا (هيئة العلاقات العامة في بريطانيا، ورابطة مستشاري العلاقات العامة البريطانية، وجمعية العلاقات العامة الفرنسية وجمعية العلاقات العامة الألمانية..).
وفي الولايات المتحدة، أخذت العلاقات العامة طابعاً متميزاً، بعدما تطوّرت أساليبها ومجالاتها. ففي بداية القرن العشرين اكتسحت هذه العلاقات المجال السياسي والحكومي في الولايات المتحدة، بعدما قام الرئيس الأمريكي «ويلسون» عام 1917 بإحداث لجنة الإعلام الاجتماعي، ما شكّل أرضية لتطور العلاقات العامة الحكومية، وتعزيز حضورها.
وبعد انهيار المعسكر الشرقي، ونهاية الحرب الباردة، حدثت مجموعة من التغيرات والتحولات ضمن ما يعرف بالعولمة، على المستوى السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والإداري.. حيث برز واقع دولي جديد استأثرت فيه التكنولوجيا الحديثة بمكانة وازنة، من حيث أهميتها ودورها في التنمية وتطور الدول، وتنامت حدّة التبادل الاقتصادي على الصعيد الدولي، فيما تشابكت العلاقات الدولية بمنظومة معقّدة ومكثفة من وسائل الاتصال، والمصالح المختلفة، وتراجعت الحواجز الجمركية وتزايدت نسبة الاعتماد المتبادل، وتطوّر استخدام وسائل وتكنولوجيا الاتصال بصورة مذهلة، وتزايد الاهتمام بمخاطر وتهديدات عالمية مشتركة (كالإرهاب، والأمراض الخطرة العابرة للحدود، وتلوث البيئة..)، وهيمنة البعد الاقتصادي في العلاقات الدولية، ما أسهم في تزايد الاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال عبر الحدود.. علاوة على تعاظم دور وأهمية الشركات الكبرى والتكتلات الاقتصادية الدولية والإقليمية، وتراجع المفهوم الجامد والصارم لسيادة الدول.
وفي هذه الأجواء، تطورت وسائل الاتصال بشكل مذهل تبعاً لتطور التكنولوجيا الحديثة، وانتشار الهاتف المحمول وشبكة الإنترنت، فظهر البريد الإلكتروني، والبرامج الإلكترونية في مجال الإدارة والأعمال والمواقع الإلكترونية، وبدأ الحديث عن الحكومة الإلكترونية. إلى جانب الوسائل التقليدية الأخرى كالهاتف الثابت والفاكس والتلفزيون والراديو.. الأمر الذي أسهم بصورة كبيرة في تقدم إدارة العلاقات العامة في السنوات الأخيرة، سواء على مستوى التأثير، أو الفعالية، بعدما تحوّل العالم إلى ما يشبه القرية الصغيرة.
وأتاحت المتغيرات الكبرى التي فرضتها العولمة على مستوى تدبير السياسات والشؤون الداخلية والدولية وما يتصل بهما من تنافسية وانفتاح، إمكانات مذهلة، سمحت بتجاوز أنماط التدبير التقليدي، ونهج سبل استراتيجية مبنية على الحوكمة، والتشاركية، والنجاعة والتسويق.. في هذا الشأن.
وتحظى العلاقات العامة في عالم اليوم بأهمية كبرى، ويبدو أن هناك توجهات واضحة لاستثمار إمكانات بشرية وتقنية ومالية كبيرة في هذا المجال الحيوي في أوساط القطاعين الخاص والحكومي، اقتناعاً بأهميته ونجاعته، فيما لم تتردد بعض الدول والمؤسسات في توظيف هذا الأسلوب بصورة منحرفة ومقيتة تنبني على الخداع، والكذب، وتسويق الأوهام.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"