الشرعية في رضا الناس وضخامة الإنجاز

04:31 صباحا
قراءة 7 دقائق
د. محمد عمران تريم

«إن أكثر شيء يخاف عليه الإنسان هو روحه، وأنا لا أخاف على حياتي، وسأضحي بكل شيء في سبيل القضية العربية»

زايد بن سلطان آل نهيان

لعل أول مصادر الشرعية لأي حاكم وأي حكم، هو رضا الناس وقناعتهم بصدقيتهما، ومثل هذا الأمر كان متحققاً إلى درجة تكاد تكون متطابقة بين رؤية الحاكم والمحكوم، فالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، كان يستلهم حكمه من الناس وإليهم يعود، لأنه يعتقد أن المعيار الحقيقي للشرعية، هو الناس أولاً وأخيراً، بعد رضا الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك بعض الدروس الأساسية في خدمة الأوطان والانتماء لأهلها وأرضها والعمل لأجل علوّها وتقدمها ورفاهها؛ إذ لا وجود لشرعية، مهما كانت الادعاءات والمزاعم الأيديولوجية والسياسية والدينية والقومية، وغيرها من دون رضا الناس، وستكون أية شرعية ناقصة ومبتورة ومشوهة دون قناعتهم وتأييدهم ودعمهم واستعدادهم للدفاع عن الحاكم والحكم.
أما المصدر الثاني، فهو الإنجاز وتحقق على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والصحية والبيئية والعمرانية، فما بالك إذا كان الإنجاز في جميع هذه الحقول متميزاً بما يوفر الأمن الإنساني للناس ويساعد على خلق نوع من التضامن الاجتماعي والسلم المجتمعي؛ بحيث يشعر فيه الناس بالطمأنينة بالحاضر والثقة بخصوص المستقبل، وفي ذلك ضمان شرعية الحاكم والحكم.
وإذا حاز الحاكم رضا الناس وقبولهم بما يطمحون إليه، من رعاية للحاضر وضمان للمستقبل، فسيكون ذلك دليل توافق بين إرادتي الحاكم والمحكوم، فالأخير يأمل بأن تحقق بلاده الرفعة والازدهار، عبر مشاريع إنجازية، يكون مردودها على المستوى الشخصي وفيراً وواعداً، وهو ما حققه طيب الذكر الشيخ زايد؛ حيث حوّل بلداً صحراوياً، وفي بضع سنين، إلى بلد مرفّه وسعيد ومتقدم، ويتمتع فيه الناس بخدمات لا تتوفر أحياناً حتى في بلدان راقية، لاسيما في الصحة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي والتقاعد، فضلاً عن الخدمات العامة، إلى جانب توفر الأمن والأمان.
ولعل المستوى الذي يعيشه المواطن في دولة الإمارات، دليل على رضا الناس من جهة، وضخامة الإنجازات التي تحققت للمجتمع في ظل حكم المغفور له الشيخ زايد، من جهة ثانية، فالشيخ زايد هو الذي أسس قاعدة مستمرة ومتراكمة ورصينة من عمل الخير لمصلحة الإنسان، وذلك هدف كل تنمية، لاسيما بتوسيع خيارات الناس، لاسيما أن المقصود بالتنمية ليس جانبها المادي فحسب، بل المعنوي، فالشعور بالانتماء والإحساس بالمواطنة الحقة، والمشاركة في تنمية البلد ورقيّه جزء لا يتجزأ من عملية التنمية المستدامة.
ويعد التعايش المجتمعي وقبول الآخر أحد أهم منجزات حكم الشيخ زايد، ولذلك ليس عبثاً أن يعيش في الإمارات، وفي أجواء من السلام والتسامح والمشترك الإنساني، بشر يحملون أكثر من 200 جنسية، دون تمييز للون أو الدين أو اللغة أو القومية أو الجنس أو الأصل، في إطار قانون يحتكم إليه الجميع ويعمل ضمن قواعد المساواة والعدالة التي تشكل الأساس في علاقة الحاكم بالمحكوم.
وهو الأمر الذي تطوّر لإنشاء وزارة للتسامح عام 2016، وتلك الفكرة جاءت تجسيداً لفكر الشيخ زايد، ورؤيته للعلاقات بين بني البشر. وقد ترسخت تلك القيم في إطار منظومة الحكم، ما جعل الإمارات من الدول المتقدمة التي كرّست ثقافة التعايش الإنساني.
وقد جسّدت زيارة البابا فرانسيس في فبراير عام 2019 إلى الدولة ذلك، اعترافاً من المجتمع الدولي بدورها الريادي في إطار الحوار الإنساني وتعزيز قيم السلام. وكانت تلك الزيارة حدثاً عالمياً مهماً ومتميّزاً، وصدر عن الحوار وثيقة تاريخية في غاية الخصوصية باسم «الأخوة الإنسانية» بحضور شيخ الأزهر أحمد الطيب.
إن سعادة أي شعب وأي مجتمع وأية جماعة إنسانية، لا تتحقق دون مقدمات مادية ومعنوية وروحية، ولا يتم ذلك إلا بالتراكم، ومثل هذا الأمر حصل في دولة الإمارات؛ حيث الانسجام المجتمعي والمعيشي معاً في ظل قبول المحكوم بالحاكم، لأن الشعور العام هو أنه انبثق منهم وإليهم يعود ويحكم بينهم بالعدل والتسامح، وهذا ما كان يمثله الشيخ زايد.
ولعل من الإبداعات التي تتجسد في المجتمع الإماراتي وفي دولة الإمارات الفتية على الرغم من مرور 48 عاماً على تأسيسها، هو تأسيس «وزارة السعادة»، وهو أمر يكاد يكون نادراً في المجتمعات الأخرى، وفي ذلك معلم حضاري وثقافي وإنساني لإرث عظيم حققه الشيخ زايد وقيمة إنسانية أصيلة تم ترسيخها من بعده، تشكل إلهاماً مستقبلياً للأجيال القادمة.
إن القبول والرضا والشعور بالامتلاء والتحقق، والرغبة في تعميم الخير والرفاه، كان واحداً من انشغالات الشيخ زايد، وحرص على أن ينتقل إلى دول الجوار دفاعاً عن الأرض والعرض وسعادة الناس، وإذا كانت الخطوة الأساسية بتحقيق المنجزات الكبرى، قد نضجت على نار هادئة في ذهن الشيخ زايد، لاسيما بعد استقلال الإمارات، فإنه سعى لنقلها إلى حيّز العمل بالتفكير بتأسيس اتحاد يضم الإمارات الشقيقة، وكانت الخطوة الأولى بين إماراتي أبوظبي ودبي بتوقيع اتفاقية السميح، لحل المشكلات الخارجية والمحافظة على الاستقرار، وتحسين أداء الخدمات للمواطنين تمهيداً لإعلان دولة الاتحاد لإنشاء «الإمارات العربية المتحدة» في الثاني من ديسمبر عام 1971.
ومثل هذا الإنجاز الذي سجله الشيخ زايد نقل فيه البلد من إمارات متفرقة إلى اتحاد واعد، لاسيما بخطط حكيمة وسياسية رشيدة؛ حيث كان يتمتع بتفكير ذي بعد استراتيجي ليس بشأن دولة الإمارات فحسب، بل على صعيد الخليج العربي، لمواجهة التحديات الخارجية والإقليمية بشكل خاص، وتحقق ذلك في 25 مايو/أيار 1981 حيث أنشئ «مجلس التعاون الخليجي» وكان أول رئيس للمجلس في دوراته المنعقدة في أبوظبي مقرّه، وقد تلمس أهمية مثل هذه الخطوة في مواجهة التحديات الإقليمية وخصوصاً من إيران التي احتلت الجزر الإماراتية الثلاث: أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى عام 1971.
وعلى الصعيد العربي، فقد كان للشيخ زايد الملقب ب «حكيم العرب» دور كبير في دعم التضامن العربي، وثمّة مواقف صميمية نابعة من إيمانه بالعروبة وبدور الأمة العربية في كفاحها ضد أعدائها؛ حيث وقف موقفاً مشرفاً عام 1973 إلى جانب مصر وسوريا، مسانداً لهما في حرب أكتوبر دعماً للشعب العربي الفلسطيني وحقوقه العادلة والمشروعة؛ حيث أقدم على خطوة شجاعة بمنع تصدير النفط إلى الدول المساندة ل«إسرائيل»، واستخدامه في المعركة مع العدو الصهيوني، وجاء في قول له حينها «إن النفط العربي ليس أعزّ من الدماء العربية».
كما بذل مساعي حميدة لإصلاح ذات بين العراق والكويت، وقدم تسهيلات كبرى للشعب الكويتي، بعد غزو قوات صدام للكويت عام 1990، وحاول أن يجنّب العراق وشعبه المصير الذي حل به بعد الاحتلال عام 2003 حين طلب من حاكمه التنحي عن الحكم وأبدى استعداده لاستضافته. كما وقف إلى جانب وحدة اليمن وشعبه خلال اندلاع القتال بين الأطراف اليمنية عام 1994، وفي وقت لاحق قام بترميم سد مأرب.
وفي المجال الاجتماعي، عمل على تعليم المرأة ووفّر الفرص والإمكانات لدخولها حقل العمل، مهيئاً الظروف المناسبة مادياً ومعنوياً للتعليم الإلزامي والمجاني. وخلال الثلاثين عاماً الماضية لم يتبق من هم في سن الدراسة من لا يعرف القراءة والكتابة، وتلك إحدى خصائص دولة الإمارات التي استطاعت توفير مستلزمات القضاء على الأمية وتقليص كثير من العادات والتقاليد البالية بالعلم والعمل، والتطلع إلى المستقبل في إطار التطور الكوني.
ومما تعتز به دولة الإمارات، إنجازات الشيخ زايد في الصحة بتوفير العلاج المجاني؛ حيث وضع أفضل المستلزمات لمقومات التوعية الصحية والوقائية، وتفخر المستشفيات ومراكز العلاج الإماراتية المنتشرة في طول البلاد وعرضها بوجود أحسن الأطباء والكفاءات الصحية.
وفي مجال البيئة اهتم الشيخ زايد، رحمه الله، منذ الستينات بحماية الحيوانات، خصوصاً النادرة، خشية عليها من الانقراض وحذر من صيد الصقور عن طريق المفرقعات، أو استخدام الأسلحة النارية. وتعد الإمارات الدولة العربية الوحيدة التي استطاعت حماية الغزلان، وتوجد محميات خاصة بالحيوانات، إلى جانب تجميل الدولة عبر زرع الأشجار المتنوعة التي تزيد على 140 مليون شجرة، وازدهرت زراعة التمور والفاكهة، وحجم الأراضي التي استزرعت ترك تأثير إيجاب في المناخ.
وفي ميدان السكن، وضع له أولوية استثنائية، بتوفير المساكن الدائمة والصحية والعصرية للمواطنين ولسكان الإمارات عموماً، وبنى عشرات الآلاف من الوحدات السكنية.
يذكر أن الناتج المحلي لدولة الإمارات في بداية حكم الشيخ زايد كان لا يزيد على ستة مليارات وخمسمئة مليون درهم، لكنه بعد نحو ثلاثة عقود تجاوز 81 ملياراً أواخر عام 2004، كما تنوع إنتاج دولة الإمارات من تصدير النفط ليشمل التجارة والزراعة، إلى جانب السياحة وبناء المرافق السياحية والخدمية، لتسهيل انتقال المسافرين من مطارات مريحة وعصرية وتقدم أحسن الخدمات والتسهيلات، وغيرها.
إن الإضاءة على بعض منجزات دولة الإمارات بمناسبة الذكرى ال48 لتأسيسها، يجعلنا نعود إلى مؤسس الدولة وبانيها الشيخ زايد، الذي اتّسم بالحكمة وطول النفس والاستقامة والاعتدال، كما امتلك شخصية مؤثرة، واتضحت معالم شخصيته القيادية، منذ تسلمه مهماته من أخيه (الشيخ شخبوط حاكم أبوظبي) على المنطقة الشرقية (مدينة العين)؛ حيث بنى أول سوق تجاري ومستشفى وشبكة مواصلات، قبل نيل الاستقلال، وحين خلف أخاه أنجز مشروع الإصلاح في إمارة أبوظبي على نحو واسع.
وكان للشيخ زايد دور ريادي في تحقيق الوحدة حتى قبل الاستقلال، وقد نادى بها بعد إعلان بريطانيا الانسحاب عام 1968، وهكذا أسست دولة الإمارات عام 1971، وهي دولة أقرب إلى الأنظمة الفيدرالية، مع الخصوصية الخليجية، واختير رئيساً لها بعد توحيد إماراتي أبوظبي ودبي التي كان يحكمها المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، وانضمت إليهما الشارقة وعجمان وأم القيوين والفجيرة، ثم التحقت رأس الخيمة بعد نحو عام.
وسيبقى باني دولة الإمارات في الذاكرة الحية للشعب الإماراتي وعلى الصعيد العربي والعالمي، وكان استحق عدداً من الجوائز العالمية والعربية منها: الوثيقة الذهبية- جنيف 1985، ورجل عام 1988- باريس، ووشاح جامعة الدول العربية. وبعد وفاته منحته الأمم المتحدة وسام أبطال الأرض 2005 من برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNDP.
ولنتذكر نحن مواطني دولة الإمارات والعرب جميعاً والمجتمع الدولي بكل الحب والاعتزاز، الذكرى العطرة للشيخ زايد، رحمه الله، الذي وضع الأسس المتينة لبناء دولة التسامح والسعادة والخير ويواصل من بعده خلفه سيرته المبجلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"