الصراع على الطاقة في «المتوسط»

00:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.غسان العزي

ينبغي عدم المبالغة في تقدير الأهمية الاقتصادية للاكتشافات النفطية في شرقي المتوسط، وذلك لأسباب عدة أولها أن العالم لا يعاني من شح في الطاقة، على العكس فالاحتياطات النفطية العالمية تكفي لسنوات عدة، موارد جديدة من الطاقة المتجددة كبديل عن الطاقة الأحفورية. 

على الرغم من  ذلك، فإن أخبار الاكتشافات الجديدة للحقول النفطية في أعماق البحر المتوسط، أعادت خلط أوراق الجيوبوليتيك المعقد في هذه المنطقة المتوسطية فائقة الأهمية من كل النواحي الدينية والتاريخية والاستراتيجية والاقتصادية وغيرها.

في بداية القرن الجاري بدأ التطلع إلى مخزونات الهيدروكربونات في شرقي المتوسط ليعيد إحياء الخلاف التركي- اليوناني حول قبرص بدل أن يشكل فرصة ذهبية لتخطي هذا الخلاف في اتجاه التعاون بين البلدين المتنازعين للاستغلال المشترك للآبار النفطية المكتشفة. ليس فقط أنه لم يتم استغلال هذه الفرصة؛ بل أكثر من ذلك أدى الحجم الكبير لحقول الغاز الكامنة في البحر لدخول لاعبين جدد إلى حلبة المنافسة، هم أنفسهم يحملون نوايا نزاعية مع هذا الطرف وتطلعات للتعاون مع ذاك.

وهكذا مثلاً فمع اكتشاف آبار تمار2 وليفياتان انطلاقاً من عام 2009 انتقلت إسرائيل من موقع المستورد للغاز إلى مركز المصدر له مع تطلع لتصديره إلى مصر نفسها بعد أن كانت تستورد الغاز منها. لكن لم يطل الأمر حتى اكتشفت مصر بدورها حقل زهر الذي يعتبر أهم حقل غازي مكتشف إلى الآن في هذه المنطقة. لكن القبارصة والأتراك والإسرائيليين والمصريين، ليسوا وحدهم من يمكنه المباشرة باستغلال هذه الثروة، هناك اللبنانيون أيضاً، لكنهم منشغلون بصراعاتهم الداخلية وهم يرفضون الترسيم الأحادي الإسرائيلي للحدود البحرية معهم، وقد دخلوا في مفاوضات غير مباشرة حول هذا الترسيم بوساطة أمريكية ورعاية أممية. 

وفي منطقة غير نفطية تتخبط منذ وقت طويل بكل أنواع الصراعات والحروب، فإن هذه الثروة النفطية تشكل فرصة نادرة لدولها كي تحلم بتحسين أوضاعها الاقتصادية المتردية. فقبرص التي يرتبط اقتصادها بالموارد المصرفية، والخارجة لتوها من أزمة مالية خانقة بفعل الأزمة اليونانية، تتطلع إلى الاستحواذ على اكتفاء ذاتي في مجال الطاقة؛ بل وتصديرها أيضاً فتنجح بذلك في تنويع مصادرها من العملة الصعبة. 

وإسرائيل التي أضحت مصدراً للغاز تغمز من قناة الأسواق الأوروبية. أما مصر التي تعاني بدورها أزمة اقتصادية صعبة، لاسيما بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وتبعاتها، فإنها ترى في حقل زهر النفطي مصدراً جديداً مهماً يسمح لها بالتطلع نحو الازدهار الاقتصادي. أما تركيا الساعية إلى مركز القوة الإقليمية المتوسطية، لاسيما بعد زوال آمالها بالانضمام للاتحاد الأوروبي، فإنها تسعى بقوة إلى أن تكون لها حصص في هذه الاكتشافات الجديدة.

غاز المتوسط هذا دفع بدوله للمسارعة إلى تحديد مساحاتها البحرية فكأنما فتحت بذلك عش دبابير من الخلافات مع جيرانها. فالصراع التركي- اليوناني، الذي كان خافتاً إلى حد كبير في بحر إيجه المملوء بالجزر، عاد للظهور مجدداً بسبب تقنين قانون البحار؛ حيث تعتبر تركيا أن الاتفاقات الموروثة من نهاية الحرب العالمية الأولى مضى عليها الزمن وهي تريد استعادة ما تعتبره حقوقها البحرية. هذه الاكتشافات النفطية سرعت مسار تحديد المناطق الاقتصادية الحصرية وأنتجت ظاهرة تقاسم البحر المتوسط الشرقي، ما يؤجج الصراعات بين دوله المشاطئة.

وفي النهاية فإن هذه الموارد الغازية وظاهرة التخصيص التي تثيرها والمشكلة المرتبطة بها تحديداً المتعلقة بشبكات التصدير والنقل (أنابيب الغاز، نقل الغاز المسيل..) تؤثر في هيكلة التوازنات الاستراتيجية في المنطقة. وهكذا شجع هذا الجيوبوليتيك الغازي الجديد التقارب بين قبرص واليونان من جهة وإسرائيل من الجهة المقابلة بعد فتور كان يتسبب به الصراع العربي- الإسرائيلي. كذلك فإنه أحيا صراعاً بين مصر وتركيا كان كامناً، إلى حد ما، منذ إطاحة محمد مرسي، كما سمح لتركيا بمحاولة العبور إلى مركز جديد هو مركز القوة الإقليمية عبر تدخلها في ليبيا والتي قامت بتحديد منطقتها الاقتصادية الحصرية معها، والتنقيب عن النفط قبالة جزيرة أفروديت والذي تندد به فرنسا والاتحاد الأوروبي الداعم لقبرص.

في هذا الصدد فإن إنشاء منتدى الغاز المتوسطي في القاهرة الذي أضحى في العام الجاري منظمة دولية أمر لافت. هذا المنتدى الذي انضمت له إيطاليا وتريد فرنسا الانضمام له هي الأخرى يجمع الدول القائمة على ضفاف المتوسط باستثناء تركيا ولبنان وليبيا. وهو يعكس في الواقع التوازنات الاستراتيجية الجديدة التي تتشكل في هذه المرحلة وهذه المنطقة، والتي يمكن أن تذهب إلى أبعد من الرهانات النفطية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"