حول مفهوم «الصراعات المجمدة»

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.غسان العزي

ظهر هذا المفهوم بأقلام المحللين السياسيين وأساتذة العلاقات الدولية الغربيين غداة سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينات القرن المنصرم. وقد ارتبط بالحركات الانفصالية والحروب التي توقفت فجأة في المساحة ما بعد-السوفييتية التي يمكن أن تعود للاشتعال في أي لحظة، كما حصل في ناجورنو كاراباخ على سبيل المثال لا الحصر، وتعمل كرافعات لسياسات موسكو في ما تسميه ب«الخارج القريب».

 هذه الصراعات المجمدة هي بمثابة ثقوب سوداء على الخارطة تقع بمعظمها على الحدود الغربية والجنوبية لروسيا. هذه الكيانات التي لا تحظى بأي اعتراف دولي هي نتيجة حركات تمردية وانفصالية مدعومة من موسكو وحروب مجمدة منذ سنوات عديدة عبر اتفاقات وقف إطلاق نار من دون حلول سياسية. وهذه الصراعات المجمدة تبقى مهملة من الدول التي تتجاهل وجودها الى أن تنفجر فتستفيق هذه الدول على وقع هذا الانفجار. وهذا ما ينطبق تماماً على الحرب الأذرية-الأرمنية التي انفجرت فجأة في 27 سبتمبر/أيلول الماضي.

 وإذا كان الغربيون يستخدمون مفهوم «الصراعات المجمدة» فإن الروس يفضلون عليه تعبير «الصراعات التي لم تحل»، كونها ليست مجمدة بالفعل لأنها سبب لعدم الاستقرار، وفقط مسارات الحلول والمفاوضات المجمدة وليس الصراعات بحد ذاتها التي تبقى كالنار تحت الرماد ولو بكثافة منخفضة، لكنها قد تنفجر في أي لحظة كون الأطراف المتخاصمين مستمرين في التسلح والاستعداد للحرب.

 مثال ناجورنو كاراباخ صارخ في هذا السياق. فسكان هذا الإقليم المسيحيون في جلهم لم يوافقوا على ضمهم الى أذربيجان في العام 1921 من قبل جوزف ستالين. لذلك انتهزوا فرصة سقوط الاتحاد السوفييتي في العام 1991 ليعلنوا استقلالهم. وبعد أشهر عديدة من الحرب مع أذربيجان نجحوا في تحرير ممر نحو أرمينيا فصاروا متصلين بها، الأمر الذي كرسه وقف إطلاق النار في العام 1994. هكذا تم تجميد الصراع على خط تماس في انتظار أن تتمكن «جماعة مينسك» برعاية «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا» من إيجاد حل تفاوضي له. هذه الجماعة نشأت لهذه الغاية بالتحديد وترأستها فرنسا وروسيا والولايات المتحدة معاً، لكنها لم تنجح في تحقيق ما نشأت من أجله.

 بالطبع هناك في العالم عدد لا بأس به من الصراعات المجمدة، كما في قبرص مثلاً التي ما تزال منقسمة على نفسها منذ الاحتلال التركي للقسم الشمالي من الجزيرة في العام 1974 بين «جمهورية قبرص» التي باتت عضواً في الاتحاد الأوروبي و«جمهورية قبرص التركية الشمالية» التي لم يعترف بها أحد سوى أنقره. وما تزال قوات «القبعات الزرقاء» تنتشر على خط التماس بين الجمهوريتين القبرصيتين منذ ستة وأربعين عاماً. ولا أحد يطلق على هذا الصراع صفة «المجمد» لأن المفهوم ارتبط فقط بالمساحة ما بعد السوفييتية.

 في عودة الى الفضاء ما بعد السوفييتي حيث ولد المفهوم وترعرع، تضرب الصراعات المجمدة جذورها في الحقبة السوفييتية نفسها حيث توجد أقليات أرادت الاستقلال فور انتهاء هذه الحقبة. وقامت روسيا بدعم هذه الأقليات اقتصادياً وعسكرياً على حساب جمهوريات سوفييتية سابقة توجس الروس من رغبتها «المفرطة» في الاستقلال عنهم. هناك مولدافيا على سبيل المثال وانفصال ترانسيتريا عنها، التي تسكنها أغلبية روسية وأوكرانية في العام 1992. هناك أيضاً جورجيا التي نشأت في العام نفسه في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية جمهوريات انفصالية عنها اعترفت بها موسكو في العام 2008 لمعاقبة الرئيس الجورجي وقتها ميخائيل ساكاشفيلي الذي، بإيعاز من واشنطن قام بمحاولة فاشلة لاستعادة أوسيتيا الجنوبية عسكرياً. وقتها كان ديمتري مدفيديف هو رئيس روسيا وفلاديمير بوتين رئيس الوزراء، لكن بوتين هو الذي تحرك فوراً وأمر الجيش بالتصدي للجورجيين والتوغل في أعماق جورجيا وصولاً لعاصمتها ولم يوقف زحفه إلا بعد تدخل دبلوماسي من قبل الرئيس الفرنسي ساركوزي والمستشارة الألمانية ميركل. وفي العام 2014 استيقظ الصراع الأوكراني بعد وصول الإصلاحيين الموالين لأوروبا الى السلطة في كييف. وقد تدخلت موسكو فقامت بضم شبه جزيرة القرم ودعم وتسليح الانفصاليين الموالين لها في شرقي أوكرانيا. الصراعات المجمدة أو النائمة تمنح روسيا الفرصة للتدخل المباشر في دول «الخارج القريب» بهدف إحكام القبضة الروسية عليها أنها رافعة عمل ووسيلة سيطرة في يد بوتين. إنها الوسيلة لمنع هذه الدول من الانضمام الى الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو على سبيل المثال والسيطرة بطريقة من الطرق على مستقبل علاقاتها الدولية. كما أنها تشكل نوعاً من التعويض عن خسارة روسيا لأوروبا الوسطى والشرقية بعد العام 1989. يقول بوتين في هذا الصدد «من لا يأسف على اختفاء الاتحاد السوفييتي لا قلب له. ومن يتمنى عودته لا عقل له».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"