تونس.. عشر سنوات على «الشرارة»

00:37 صباحا
قراءة 3 دقائق

في 17 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2019 أحرق محمد البوعزيزي نفسه في منطقة سيدي بوزيد، وسط تونس، احتجاجاً على منعه من بيع خضاره، من دون أن يعلم بأنه بذلك أطلق شرارة ثورة شعبية سوف تمتد كالنار في الهشيم على مساحة بلاده، ومنها إلى أقطار عربية أخرى. وإزاء مشاركة كل الطبقات الشعبية والنقابات المهنية على وقع تأييد خارجي ورفض الجيش التدخل لقمع الثورة، آثر الرئيس الراحل زين العابدين بن علي المغادرة ليبدأ ما يسميه علماء السياسة ب«التحول الديمقراطي»، أو ما يسمى «الربيع العربي» الذي سيحقق نجاحاً ملموساً في تونس، فيجعل منها «نموذجاً» عربياً يحتذى، ويتحول إلى شتاء دموي في أقطار عربية أخرى.
واليوم يحتفل التونسيون بمرور عقد كامل على ثورتهم، لكنه احتفال تغيب عنه البهجة، ويسوده الخوف من المستقبل والخشية من ضياع المنجزات الديمقراطية. فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تعيش في أزمة جاءت جائحة كورونا لتزيد من حدتها، وتزاحم فيها المؤشرات السلبية: ركود اقتصادي بنسبة 9% وبطالة تتخطى 16% وعجز خزيني 13,4%، ومديونية عامة تقترب من 90% من الناتج الداخلي الإجمالي. ومن الناحية التقنية فإن تونس ليست بعيدة عن الإفلاس، وتعيش تبعية حيال المساعدات الدولية وشروط صندوق النقد الدولي.
 وعلى الأرض هناك تململ اجتماعي واضح تعبر عنه الاحتجاجات والتجمعات التي بلغ عددها 871 في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي ضعف ما كانت عليه في عام 2018 بحسب «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية». وهجرة الشباب تتزايد، فقد وصل هذا العام 12490 مهاجراً تونسياً غير شرعي إلى السواحل الإيطالية، أي أربعة أضعاف العدد قبل عام واحد.
وبالنسبة إلى الديمقراطية بيّن استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «جسور» أن 43% من المستطلعين يعتبرون أنها أضحت «حقاً مكتسباً شريطة أن يتحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي، فما الفائدة أن تكون حراً ولكن جائع»، بل إن 39% ممن شملهم الاستطلاع يعتبرون أن «الديمقراطية لا تناسبنا». وكشف استطلاع آخر أن 82% من ال800 تونسي شاب المستطلعين من مختلف أحياء تونس يعتقدون بأن القوانين لا تطبق بالتساوي على الجميع.
 والإيمان بالديمقراطية تراجع كثيراً أمام الهموم الاقتصادية، إلى درجة أن أصواتاً باتت تعلو للمطالبة بضرورة اللجوء إلى الجيش لإعادة البلد إلى الانتظام. وهذه مفارقة لافتة في بلد ثار على الدكتاتورية ونجح في فرض حد مقبول من الديمقراطية.
 المعروف أن الجيش التونسي بقي منذ الاستقلال بعيداً عن السياسة، وأن النظام السابق كان «بوليسياً» استخباراتياً، وليس عسكرياً. ولكن مجرد وجود مثل هذه الأصوات يعكس وجود تعب، أو خيبة أمل من الديمقراطية. والطبقة السياسية التي أفرزتها الثورة تبدو بعد عشر سنوات عاجزة عن تحقيق أهداف هذه الثورة. من هنا الشعور العام الرافض للأحزاب السياسية المتهمة بأنها تسببت بغرق الدولة بالديون وبالبيروقراطية المنتفخة (650 ألف موظف)، وتراجع الخدمات العامة والفساد المستشري والاقتصاد الموازي عبر التهريب الناشط على الحدود مع الجزائر وليبيا.
 في «تونس الداخلية»، لاسيما شمال غربي البلاد وجنوبها ووسطها، تململ واضح من تراجع «العدالة»، و«الكرامة»، وإهمال النخب السياسية لها، والمستمر منذ الاستقلال، في مقابل ازدهار المناطق الساحلية التي يقطنها الأغنياء. وليس من قبيل المصادفة أن تكون خريطة الاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية اليوم تضم تحديداً مناطق الخريطة الثورية في عام 2011.
 هذه الأوضاع ساهمت في بزوغ شعبوية احتجاجية في انتخابات عام 2019 التشريعية ثم الرئاسية، كان من ضحاياها الائتلاف الحاكم وقتها بين حزب النهضة الإسلامي والتيار الدستوري الموروث من الحقبة البورقيبية. هذه الانتخابات فتحت المجال أمام تشكيل سياسي جديد «كرامة»، ورئيسه هو أستاذ جامعي جاء من خارج الحياة السياسية ( قيس سعيّد) لا يخفي عداءه للأحزاب السياسية، وانبثق عنها برلمان يعاني العجز في قيادة البلاد من الناحية التشريعية.
 واليوم، في الذكرى العاشرة للثورة، تبدو الديمقراطية التمثيلية التونسية في أزمة وتعيش التسوية الدستورية للعام 2014 حول النظام البرلماني في خطر محدق.
لقد تمكنت تونس من الانتصار على خطرين: الانقسام الأيديولوجي، والخطر الإرهابي. ولا شك في أن ثقافة الحوار والتسوية التي يتميز بها التونسيون سوف تنتصر مجدداً ليس على يد الأحزاب السياسية، بل المجتمع المدني الحيوي والمتعلق بالحريات المكتسبة رغم خيبات الأمل العديدة. فالثورات الديمقراطية، كما علّمنا التاريخ، لا تؤتي أكلها في فترات زمنية وجيزة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"