القومية والمسيحيون العرب

00:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.مصطفى الفقي

المسيحيون العرب هم في معظمهم عرب أقحاح، بدءاً من عرب المناذرة على تخوم بلاد فارس وعرب الغساسنة في تخوم الشام الكبير، وإن كان أقباط مصر وبعض الطوائف المسيحية في بلاد النهرين هم استثناء يرتبط بانتشار المسيحية في الشرق، والمسيحيون العرب موزعون على معظم الدول العربية بنسبٍ متفاوتة يقل عددهم في الجزيرة العربية ودول الخليج، بينما يندر تواجدهم في دول الشمال الإفريقي العربي، باستثناء مصر التي تضم أكبر تجمعٍ مسيحي في الشرق الأوسط، في ظل واحدةٍ من أقدم كنائس الأرض، وهي الكنيسة الأرثوذكسية المصرية التي يتركز أتباعها في مصر والسودان وفي إثيوبيا من قبل. 

 والملاحظ أن عروبة المسيحيين في المنطقة تبدو راسخة وعميقة، كما أن ارتباطهم بالثقافة العربية الإسلامية أمرٌ ملحوظ، فهم جزء لا يتجزأ من النسيج المصري والسوداني والتركيبة الشامية العراقية، ولقد لعب المسيحيون العرب أدواراً مشهودة في التاريخ، سواء في النضال ضد الاستعمار الأجنبي مثلما حدث في مصر، أو في مواجهة الدولة العبرية في فلسطين، وبرزت أسماء مسيحية في قيادات النضال العربي، بدءاً من مكرم عبيد وفخري عبد النور وسينوت حنا في مصر أو جورج حبش ونايف حواتمة في فلسطين، مع أسماء أخرى في كافة الدول العربية التي تضم بين أبنائها وجوداً تاريخياً مسيحياً كان ولا يزال مكوناً كبيراً في النسيج العربي كله، كما أنهم شركاء على قدم المساواة مع أشقائهم المسلمين وبعض اليهود أيضاً في بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية منذ صدر الدولة الأموية، مروراً بالعصرين العباسي الأول والثاني حتى يومنا هذا.

 وإذا انتقلنا إلى دورهم في تشكيل تراث المنطقة والحفاظ على الهوية العربية، فسوف نجد أن دورهم ملحوظ ومقدر، فقد حافظت الأديرة على أمهات الكتب العربية والأجنبية وحمل الموارنة والروم الأرثوذكس والكاثوليك من العرب مسؤولية التصدي للحفاظ على لغة الضاد، وتأكيد مكانتها دولياً وإقليمياً.

 ولا ننسى الدور اللبناني المؤثر في الثقافة العربية الحديثة، كما ينبغي أن نتذكر دائماً أن النهضة الثقافية العربية في مصر قادها شوامٌ من بينهم نسبة كبيرة من المسيحيين العرب في مجالات الأدب والصحافة والشعر والمسرح، وصولاً إلى السينما والموسيقى والغناء، وما زالت أسماء تؤثر في الساحة من أمثال خليل مطران وجورجي زيدان والأخوين تقلا، وصولاً إلى نجيب الريحاني وفيروز وصباح وعشرات الأسماء غيرهم في كافة المجالات، والتي تشير بوضوح إلى الشراكة الثقافية القوية بين الأغلبية المسلمة في الوطن العربي ممتزجة بالوجود المسيحي الذي لعب دائماً أدواراً وطنية، ومضى على طريق قومي، حتى أن معظم دعاة القومية العربية في الوطن والمهجر كانوا من المسيحيين الشوام بالدرجة الأولى، ذلك أنهم كانوا يلوذون بعروبتهم الراسخة التي تحميهم من أن يكونوا أقلية عددية في ظل التمييز الديني الذي عانوا منه طويلاً، خصوصاً في ظل الاحتلال التركي، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الثلاث التالية:

*أولاً: إن المسيحيين العرب قد دافعوا عن المنطقة في مواجهة الغزاة والبغاة دون تردد، وكانوا في كل الأحوال مكوناً منصهراً مع غيره في جسد أمتهم العربية.

*ثانياً: لقد جرى تحول واضح للمشاعر الإسلامية تجاه الأشقاء المسيحيين برغم تنامي ظاهرة الإرهاب واكتواء العالمين العربي والإسلامي بل والعالم كله بداء التطرف والتشدد، حتى أصبحت الإسلاموفوبيا ملتصقة ظلماً بدين يدعو إلى التسامح ويحترم أهل الكتاب، ويرى أنه لا يكون مسلماً إلا من آمن بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، فالمعاملة التي يلقاها المسيحيون العرب في دول الخليج محل تقدير، فقد أدرك الجميع أننا في قارب واحد مهما اختلفت الديانات؛ لذلك ضم البلاط الملكي والأميري في عدد من دول الخليج العربي عناصر مسيحية تطفو عروبتها فوق كل شيء.

*ثالثاً: لم يفلح الاستعمار الغربي في استمالة المسيحيين العرب إلى جانبه، بل كان عداؤهم له مثيلاً لمقاومتهم للاحتلال التركي، على اعتبار أن كل من يعادي العروبة يعادي بالضرورة مواطنيها مسلمين ومسيحيين على السواء، وما زلنا نفاخر بأسماء مثل بطرس بطرس غالي ومجدي يعقوب، وقبلهما جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، إلى جانب سلامة موسى، ولويس عوض في مصر، وحنا مينة في سوريا، فقد انصهر الجميع في بوتقة العروبة، وأصبحوا رمزاً لها منذ أيام اليازجي وفيليب حتي ومي زيادة، فالعروبة للجميع، والأديان علاقات مباشرة بين المخلوق والخالق لا تلوثها السياسة ولا ينالها التعصب.

 إنني أكتب اليوم لكي أشير إلى الصفحات الناصعة في التاريخ العربي المعاصر، وكلها تؤكد حقيقة راسخة وهي أن الإسلام الذي حمل العروبة إلى بعض أقطار الأرض هو أيضاً الذي استوعبته العروبة وجعلته ديناً وثقافة وليس فقط شعائر ومعاملات، وتثبت الحياة يوماً بعد يوم أن الجوامع والكنائس هي دُور للنقاء والصفاء والتطهر وغرس روح التسامح، فالأديان نقية كالماء، والسياسة ملوثة كالزيت، وعلينا أن ندرك كعرب دائماً أن الدين للديّان، أمّا نحن فلنا الأوطان!.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"