عادي

عصر تراجع الشعر

23:46 مساء
قراءة 7 دقائق
1601

استطلاع: نجاة الفارس

هناك تجريب مستمر في المسرح والتشكيل والسرد، فلماذا لا يقدم أحدهم على التجريب في الشعر؟ وهل انتهت المسألة عند قصيدة النثر؟ يؤكد عدد من الشعراء والنقاد، أن التجريب فيما بعد قصيدة النثر أمر متروك للزمن فهذه القصيدة لا تزال تقدم مقترحات جديدة، وأوضحوا أن التجريب كلمة سهلة، لكنها صعبة كواقع وكتطبيق في الشعر، وتحتاج إلى شجاعة، كما أن الشعراء العرب إلى اليوم يحاولون النفاذ إلى أنساق شعرية مختلفة، لكنها محاولات على استحياء وليست بالجريئة، ربما بسبب تراجع الشعر عالمياً عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى.

أكد الشعراء والنقاد في استطلاع ل «الخليج»، أن الطريق مفتوح أمام قصيدة النثر التي لا يستطيع أن يبرع فيها إلا مَن امتلك موهبة كبيرة، لأن هذا النمط يحتاج إلى التكثيف والتوهّج والتجربة، إلا أن الباب سيبقى مفتوحاً أمام تحديثات جادة.

اختراق السائد

الشاعر خالد البدور، يقول: «التجريب في الفنون بشكل عام يحتاج إلى الكثير من التروي في إطلاق الأحكام حوله أو تفسيره، لأنه يرتبط بتجربة كل فنان، سواء كان كاتباً روائياً أو شاعراً، وذلك في الجانب اللغوي في الكتابة أو الجانب البصري في الفنون التشكيلية، وفي الفنون المشهدية كالمسرح والسينما، فهي عملية عالية الدقة في اختراق السائد من طرق التعبير في الفنون المختلفة، وإذا أتينا إلى الشعر سنجد أننا ندخل في عملية أيضاً تبدو أكثر تعقيداً، كونها ترتبط باللغة؛ حيث يمكن للمتلقي أن يشاهد ما يحدث من مقترحات تجريبية متقدمة من الفنانين البصريين، لكن عندما نأتي إلى الاقتراب من اللغة الشعرية فنحن فعلاً في رمال متحركة تعود إلى تجربة كل شاعر».

ويضيف: «التجريب في الشعر مرّ في مراحل متعددة، منذ عرف الإنسان الشعر، وكل شاعر متميز يضيف مما لديه من إبداع إلى التجربة الإنسانية، وهذه الإضافة تأتي من خبرته ومن قدرته على اختراق السائد من طرق القول، وبالنسبة للشعر العربي كما هو معروف استقر لمدة قرون طويلة على نفس الشكل ونفس الأساليب، حتى جاء العصر الحديث وقدم مقترحات جديدة، خاصة في ما يتعلق بالوزن الشعري والتصوير واستخدام الوصف والرموز والمجازات، فوجدنا بداية التجريب في الشعر الانتقال من وزن الشطرين إلى التفعيلة، فقصيدة التفعيلة قدمت إضافات كبيرة في هذا الجانب، وأصبحت لها تجربة طويلة منذ منتصف القرن العشرين، وظهرت أسماء مهمة جربت في الشكل، وانتقلت أيضاً إلى المضامين التي تغيرت، ولم تعد التصنيفات القديمة هي نفسها السائدة، كشعر الهجاء وشعر الغزل والمدح، هكذا بدأت القصيدة تتسع لتشمل جوانب أخرى جديدة تواكب ما حدث من تغيرات في التجربة البشرية والإنسانية بشكل عام».

ويسترسل البدور بالقول: «بعد تجربة التفعيلة ظهرت قصيدة النثر التي بدأت تقدم إضافات جديدة، أما أن نطالب في التجريب فيما بعد قصيدة النثر فهذا أمر متروك للزمن، فقصيدة النثر لا تزال تقدم مقترحات جديدة، ونحن نتحدث عن الشعراء الذين لديهم خبرة في التعامل مع النص الشعري في مستوياته العليا: اللغوية والبلاغية والمجازية، من هنا ليس من السهل أن نسأل ببساطة لماذا لا نجرب بعد قصيدة النثر؟ هذا سؤال لا يفيدنا، فكل تجربة شعرية يجب أن تخضع للنظر والفحص لنعرف إلى أين ذهب بها التجريب؟ فالتجريب كلمة سهلة، لكنها صعبة كواقع وكتطبيق في النص نفسه، تحتاج من الشاعر الشجاعة في الإقدام على تقديم ما هو مختلف، إضافة إلى إقناع القارئ بأن هذه القصيدة تستحق أن يتوقف عندها ليرى ما هي الإضافات التي يقدمها النص».

محاولات خجولة

الدكتور شعبان بدير، ناقد وأكاديمي، يقول: «تعددت محاولات التجريب في الشعر العربي على مر التاريخ، بدأت مع أبي نواس في ثورته على قالب الشعر العمودي الموروث والوقوف على الأطلال يذكرنا بذلك بيته (عاج الشقي على رسم يسائله/ وعجت أسأل عن خمارة البلد) تلاه محاولات للتجريب والتجديد في الشكل والمضمون كقصيدة الموشحات، ثم ارتبط التجريب بالخطاب الحداثي حتى صار سمة من سماته؛ فحاول شعراؤه استكشاف آفاق ممكنة موجودة في النظام الأدبي السائد في الثقافة العربية فغردت محاولات التجريب الحداثوية في آفاق شعرية جمعت بين الشكل والمضمون فأوجدت أشكالاً جديدة أهمها الشعر الحر وقصيدة النثر التي ثارت على قالب الشعر العمودي وثبتت واقعاً شعرياً أضحى من ركائز الشعر العربي إلى اليوم».

ويتابع: «لا يزال الشعراء العرب إلى اليوم يحاولون النفاذ إلى أنساق شعرية مختلفة، لكنها محاولات على استحياء وليست بالجريئة ربما بسبب تراجع الشعر عالمياً عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، وتبعه التراجع النقدي الذي لم يعد قادراً على متابعة الحالة الأدبية ومد الشعراء بالجديد وضعف القراءة وتراجع التعليم، وأبرز هذه المحاولات التداخل بين الأجناس الأدبية في القصيدة ومحاولة الاستفادة مما تزخر به الأجناس الأدبية الأخرى وأهمها الرواية التي تربعت في السنوات الأخيرة على عرش الأدب العالمي، فأوجد هذا السعي قصيدة السرد أو الشعر القصصي الذي أصبح سمة من سمات الشعر في السنوات الأخيرة مع وجود إرهاصات قديمة له».

خصوصية

الدكتور محمد عيسى الحوراني، ناقد وأكاديمي، يقول: «يتكئ التجديد في مسارات الأدب عالمياً على محوري الشكل والمضمون، وقد دأبت الدراسات على التركيز على الشكل دون المضمون، و على الشعر أكثر من سائر الفنون، وأدبنا العربي ليس بمعزل عن التطور في الآداب العالمية، مع خصوصية الشعر العربي أسوة بخصوصية المسرح الروماني، ونظراً لهذه الخصوصية، فإن محاولات التجديد في موسيقى الشعر العربي كانت تراوح قديماً بين الانفلات من الشكل التقليدي مع الالتزام بالبحر العروضي من جهة، والخروج على القافية خروجاً جزئياً في الأغلب من جهة أخرى، ومع أن تلك المحاولات لم تأخذ بعداً عميقاً يسعى إلى التغيير الجذري، إلا أنها بقيت محطات تقض مضجع القاعدة، وتؤرق الذين يعتمدون علمي العروض والقافية أساساً لاستقامة الشعر إن لم نقل أساساً لوجوده».

ويسرد الحوراني التجديد خلال العصر الحديث، بالقول: «رأينا كيف كانت المحاولات حثيثة أمام الانفتاح على العالم، للخروج من إطار القافية، ورأينا كيف أن الشعر المرسل والمقطعي وما واكبهما لم يكن خروجاً على الوزن، وإنما كان ميلاً للانعتاق من قيود القافية، واستمر ذلك إلى أن جاء شعر التفعيلة فكان انزياحاً حقيقياً، وثورة كبرى في مسيرة الشعر العربي، فاتخذت قصيدة التفعيلة مكانة لا تقل بالميزان الحديث عن تلك القصيدة التقليدية، وانشق الناس أمامها إلى طرفين، لكنها أثبتت بصمودها خلال أقل من نصف قرن أنها قادرة على استيعاب التجربة وتقبل العقول والآذان لها ولإيقاعاتها، ومع أن هذه القصيدة لا تعد خروجاً على الأوزان الخليلية، إلا أنها استطاعت أن تنزاح بتلك الأوزان إلى مسار إيقاعي جديد، ولا تزال هذه القصيدة قادرة على استيعاب التجارب الحداثية على الرغم من ميل البعض إلى الانعتاق من قيد التفعيلة لمصلحة ما يسمى بقصيدة النثر، وأرى أن الإيقاع الخارجي لأي قصيدة- المؤطر بوزن ما– لا غنى عنه، وإن حفلت المنابر الثقافية بتسميات مختلفة لما يجتلبه الإيقاع الداخلي».

الباب يبقى مفتوحاً

الدكتور محمد الحوارني، يقول: «مع غياب محاولات التجديد في الشعر، وتوقفها ضمنياً عند قصيدة النثر، إلا أن الباب سيبقى مفتوحاً أمام تحديثات جادةتعتمد على مدى ما يمكن أن توفره الموسيقى للقصيدة، ومع أننا نرى عدداً من المحاولات التجديدية في السنوات الأخيرة كقصيدة الومضة وقصيدة الهايكو وغيرها من الأنماط إلا أن ذلك يبقى في مسار التجريب ولا يعد بأي حال ثورة تجديدية».

الرواد فقدوا التوهج

إخلاص فرنسيس، شاعرة وناقدة، تقول: «نشأت قصيدة النثر في الغرب في وقت مبكر، وارتبط ظهورها بتحولات مجتمعية، ولقد تأثر الشعراء العرب بالشعر الغربي لا سيما الفرنسي، ولكن لم يستطع هذا الشعر أن يقف بقوة في وجه الشعر العمودي والحرّ، وذلك لأنه خرج على الذائقة الموسيقية المعروفة، على الرغم من كثرة من يكتبونها، حتى الرعيل الأول من الشعراء لم يستطيعوا أن يكونوا المثل الأعلى للأجيال التالية، كما هو الحال في قصيدة التفعيلة التي لا تزال تحتل الساحة، ولها نماذجها الشعرية المتوهجة».

وترى فرنسيس أن قصيدة النثر هي نتاج التجريب والتجديد بحد ذاتها، فالخروج على التفعيلة والقصيدة التقليدية هو تجديد وخير ممثليه مثلاً أدونيس والماغوط وأنسي الحاج، لكنهم لم يستطيعوا أن يتركوا ذلك الأثر الذي تركه شعراء الوزن والتفعيلة، يقال: إن قصيدة النثر ذات إيقاع داخلي، ولكن هذا الحكم مختلف فيه، بعكس الإيقاع الخارجي لدى شعر التفعيلة. وعلى الرغم من ذلك فالطريق مفتوح أمام قصيدة النثر التي لا يستطيع أن يبرع فيها إلا من امتلك موهبة كبيرة؛ لأن هذا النمط يحتاج إلى التكثيف والتوهّج والتجربة.

وتلفت إلى أن رواد قصيدة النثر فقدوا توهّجهم، والدليل أننا لم نعد نقرأ لهم بحماسة الماضي، فهي تحتاج إلى تجديد الدم في عروقها من خلال شعراء جدد ذوي موهبة حقيقية، ولا شك أن ما كتب الرواد لا يزال يعد نموذجاً صالحاً للاقتداء به، ولكن ليس إلى درجة التقليد الأعمى، فلا بد من التجاوز، وبغير ذلك ستبقى هذه القصيدة تراوح مكانها إلى درجة الملل.

يقول الماغوط: «الحب هو المرض الوحيد الذي أريد أن أقع فيه دون إسعاف». ويقول أدونيس: «إذا ضحك الموت في شفتيك بكت من حنين إليك الحياة». وفي قصيدة بعنوان حيرة يقول: «ينشر عينيه، ويطويها حيران، لا يغفو، ولا يستفيق كأنما يفرّ من نفسه كأنما تجفل منه الطريق».

في هذه النماذج وغيرها نحن أمام قصيدة نثرية حديثة، وليس شعراً نثرياً، قصيدة النثر مثلها مثل باقي أنواع الشعر، لها عللها، ولكن وحدهم المبدعون من استطاعوا ضبطها والتحليق فيها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"