عادي

المحتمل في دائرة الوعي

23:25 مساء
قراءة 7 دقائق
تطوير-المدرسة-المستقبلية-
رواد-المدرسة-المستقبلية

القاهرة: مدحت صفوت

طوال الوقت، يفكر الناس في المستقبل، في الصباح عندما يستيقظون ويبدأون التخطيط لليوم وكيفية قضائه، أو على مائدة العشاء وقتما يناقشون اختيار المكان الذي يذهبون إليه في الإجازة، أو الجامعة التي يجب أن يلتحق بها الأطفال، أو ما يمكن أن يحدث في سوق الأسهم وتداول الأوراق المالية، الأمر لا يتعلق بالجد فقط، ويمتد إلى الهزل والتخطيط لحضور مباراة أو توقع سيناريوها اللعب المحتملة، مثلاً.

الإشارات السابقة تتوارد في الفترات قصيرة المدى، لبضع ساعات، أو لأيام وتمتد لشهور، وتمزج على نحو طبيعي ما تأمله مجموعات صغيرة من الناس، وذلك من جملة التوقعات المحتمل حدوثها أو غير المحتملة، وترجيح الأكثر احتمالية، فماذا عن التفكير في مستقبل الأمم والشعوب؟

بعناية من قبل المتنبئين المحترفين الذين يحاولون التنبؤ بالطقس في الغد أو النمو الاقتصادي في العام المقبل، يميل المختصون إلى التركيز على الوصول إلى أعلى توقعات الاحتمالات التي يمكن أن توفرها البيانات والمعطيات المتاحة، فيبتعدون عموماً عن النظر في الاحتمالات الأقل فرصاً، لكنها تبقى مسائل أولية خاصة بدراسة ماذا سيحدث في المستقبل القريب؟.

أما المسائل المعقدة فتتطلب ما يعرف بعلم دراسات المستقبل أو «المستقبليات»، ذلك التخصص الذي يُعنى ب«المحتمل» و«الممكن» و«المفضل» من الزمن الآتي، بجانب الأشياء ذات الاحتماليات القليلة لكن ذات التأثيرات الكبيرة التي يمكن أن تصاحب حدوثها. وبكل الأحوال يمكن اعتبار دراسات المستقبل فرعاً من العلوم الاجتماعية وموازية لمجال التاريخ، وتسعى إلى فهم ما يحتمل أن يستمر وما يمكن أن يتغير على نحو منطقي ومعقول وبشكل منهجي وقائم على الدروس المستفادة من الماضي وواقع الحاضر الراهن، واستكشاف إمكانية الأحداث والاتجاهات المستقبلية.

تاريخ المفهوم

علم المستقبل أو دراساته، ترجع أصوله إلى المفهوم الإنجليزي (Futures studies)، ويرجع البعض إلى الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، أي إلى القرن السادس عشر، والذي رأى أن تقدم العالم من الممكن أن يتحقق من خلال رؤية مستقبلية علمية بخاصة في كتابه «أتلانتا الجديدة»، ثم بدأت الكتابات تتخذ منحىً واضحاً بخاصة مع هيرمان لوتسي في القرن التاسع عشر، ثم برتراند راسل في القرن العشرين في كتابه «هل للإنسان مستقبل؟»، والذي يسعى من خلاله لبناء مستقبل لا محدود، يهمّه اتّساع الأحلام، واستمراراً في الأمل يغذّيه العمل الدائب.

ويعتبر قاموس أكسفورد علم المستقبل حقلاً معرفياً حديثاً ارتبط بالاقتصاد والعلم والتقنية والسياسة والثقافة ونمط الحياة والمجتمع والزمن. ومن الطبيعي أن تدفع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الواسعة إلى تنمية التفكير في المستقبل، وبالمقارنة مع التخصصات الأكاديمية الراسخة، تفتقر المجالات الإنسانية إلى دراسات مستقبلية ذات أساس متماسك ومقبول على نطاق واسع، بقدر ما يحضر هذا الفرع في علم الاقتصاد، الذي اتفق أربابه بعد قرابة قرنين من النقاش الساخن، على أن علم الاقتصاد هو دراسة تخصيص الموارد النادرة، كما أن تحليلات الاقتصاديين العامة، قصيرة المدى وطويلة الأجل والاقتصاد القياسي والتاريخي، اليوم تنبع بشكل كبير من السؤال الجذري: كيف نخصص الموارد النادرة؟.

وتختلف المصادر في أول من استعمل مفهوم «علم المستقبل» وأول من صك مقولة «Futurology»، فيرى البعض أن المؤرخ الألماني أوسيب فلنختايم هو أول من صك مفهوم دراسة المستقبل في العام 1930، ثم لحق به الفرنسي جاستون برجيه، وقصدا به مجموعة من البحوث والدراسات التي تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبلية، والعمل على إيجاد حلول عملية لها، كما يدفع إلى تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيرات المتعددة للموقف.

ويرى البعض الآخر، أن مصطلح «البصيرة» Foresight هو المفهوم الأصلي، واستخدمه لأول مرة بهذا المعنى هربرت جورج ويلز في عام 1932، وإن سبق وأن دعا لأول مرة إلى «الدراسات المستقبلية» في محاضرة ألقيت عام 1902، قبل أن يشاع استعمال دراسات المستقبل ويكثر تداول المقولة من قبل غير المتخصصين اليوم، على الأقل في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، ويجري التعامل معها بوصفها فرعاً جديداً للمعرفة يتضمن علماً جديداً للاحتمالات، ومع ذلك تراجعت أفضلية المفهوم في العقود الأخيرة، خاصة وأن العاملين المعاصرين في هذا الحقل يشددون على أهمية المستقبل البديل والمعقول والمفضل والمتعدد، بدلاً من مستقبل موحد واحد.

أساليب في القراءة

حسبما تشير ورقة بحثية لعدد من الباحثين بعنوان «وثيقة منهجية حول الدراسات الاستشرافية»، فللدراسات المستقبلية مبادئ عدّة منها، الاستمرارية أي توقع المستقبل كامتداد يتعلق بالحقائق العلمية، والتماثل أي توقع تكرار بعض أنماط الحوادث كما هي من وقت لآخر، والتراكم أي تراكم الأحكام.

ولهذه الدراسات أساليب تتنوع بين التقليدية والحديثة، فالأخيرة منها أساليب السلاسل الزمنية، والمتوسطات المتحركة وتحليل الانحدار، والإسقاطات السكانية، والنماذج السببية، والألعاب أو المباريات، وتحليل الآثار المقطعية، بجانب الأساليب التشاركية، والتنبؤ من خلال التناظر، وتتبع الظواهر وتحليل المضمون، فضلاً عن أسلوب المسوح، وأخيراً أساليب السيناريوهات المفترضة.

أما عن الأساليب التقليدية، فتكشف الوثيقة المنهجية الصادرة عن المركز الوطني للتجديد البيداغوجى والبحوث التربوية في العام 2011، أنها تشمل التنبؤ عن طريق التخمين على الحدسية الفردية في التقدير، واستقراء الاتجاهات المبني على أن الاتجاهات التي ثبتت في التاريخ القريب سوف تستمر في المستقبل، والإسقاطات أي قراءة الاتجاهات الماضية، والمحاكاة أو المماثلة، والتعرف على المستجدات، وتحديد مجالات الانتشار.

من جهة أخرى، يحدد الباحث السوري حواس محمود نقلاً عن كتاب «تعليم المستقبل» لديبر كوفمان ست مهارات أساسية في قراءة المستقبل، أولًا الوصول إلى المعلومات، وثانياً وضوح التفكير، وثالثاً فاعلية الاتصال، ورابعاً فهم البيئة، وخامساً فهم الإنسان والمجتمع، وسادساً الكفاءة الشخصية.

ويشدد على أن تمييز الأزمات المحتملة مستقبلاً حتى يمكن تفاديها، لهو إحدى الوظائف الأساسية للريادات المستقبلية، والواقع أن الاستكشافات المنهجية لاحتمالات المستقبل يمكن أن تعمل كجهاز إنذار مبكر بعيد يتخذ العمل في حينه للتعامل مع المشاكل قبل أن تصبح كوارث.

برامج دراسية

ومع الوقت، بدأت الأكاديميات الغربية والراسخة منها في تقدير علم المستقبليات، وإدخاله كفرع من دراساتها، وقد تأسس أول برنامج دكتوراه عن دراسة المستقبل عام 1969 في جامعة ماساتشوستس الأمريكية على يد كريستوفر ديدي وبيلي روخاس، كذلك تأسس برنامج الدراسات العليا التالي (درجة الماجستير) من قبل كريستوفر ديدي في عام 1975 في جامعة هيوستن - كلير ليك. ونقل أوليفر ماركلي في عام 1978 البرنامج إلى اتجاه تطبيقي واحترافي على نحو أوضح.

وظل البرنامج يركز على إعداد المستقبليين المحترفين وتوفير تدريب استشراف عالي الجودة للأفراد والمنظمات في مجال الأعمال والتعليم والمؤسسات غير الربحية. وفي عام 1976، أُنشئ برنامج الماجستير في السياسة العامة في المستقبل البديل في جامعة هاواي، ويُعنى بالدراسات ضمن فضاء تربوي محدد بالماركسية الجديدة، والنظرية الاقتصادية السياسية النقدية، والنقد الأدبي، وفي السنوات التي أعقبت تأسيس هذين البرنامجين، انتشرت الدورات الفردية في دراسات المستقبل على مستويات التعليم جميعها، لكن البرامج الكاملة نادراً ما تحدث.

وفي عام 2010، بدأت جامعة برلين الحرة برنامج درجة الماجستير في الدراسات المستقبلية وهو الأول من نوعه في ألمانيا. وعام 2012، بدأ مركز أبحاث المستقبل الفنلندي برنامج درجة الماجستير في الدراسات المستقبلية بكلية توركو للاقتصاد، وهي كلية إدارة أعمال تابعة للجامعة.

مؤسسات متكاملة

على صعيد المؤسسات، ظهرت في أواخر 1960 منظمة الاتحاد العالمي لدراسات المستقبل «WFSF»، وهي شريك استشاري مع منظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة «اليونيسكو» ومنظمات غير حكومية عالمية وعضوية تنتمي إلى نحو 60 دولة، وتجمع بين الأكاديميين والباحثين والممارسين والطلاب والمؤسسات العاملة في دراسات المستقبل، فيما يقدم منتدى WFSF فرصة للتحفيز والاستكشاف وتبادل الأفكار والرؤى وخطط المستقبل البديل، من خلال التفكير طويل المدى ورسم صورة كلية للظواهر العالمية.

وبجانب هذه المنظمة، تأتي جمعية المستقبل العالمية التي تشكلت في واشنطن كرابطة تعليمية وعلمية غير ربحية، تميزت بتقديم الدراسات المستقبلية بشكل قريب من عموم الناس بكونها جمعية مفتوحة لكل من له اهتمام بالمستقبل، ويصدر عنها مجلتان: مجلة (التنبؤات والاتجاهات والأفكار عن المستقبل)، ومجلة (جمعية المستقبل العالمية).

خارج السياق

مع ما يمر به العالم العربي من أزمات اقتصادية وثقافية واجتماعية، فإننا قد نقرأ أو نسمع كثيراً عن دراسات أو أوراق بحثية تبدو في شكلها معنية بالمستقبل، لكنها لا تعدو في أغلبها أكثر من اجترار لا يمت إلى دراسات المستقبل ومناهجها بأي صلة، وربما لا يعتبر الكثير من العرب «futurology» علماً مستقلاً أو مبحثاً علمياً، فجرى التعامل معه بوصفه استشرافاً للمستقبل أو «فناً للتنبؤ» وليس كعلم محكوم بالمعيارية قدر الإمكان.

ولعل محدودية الدراسات المستقبلية في العالم العربي ليست منفصلة عن جانبين، الأول يتعلق بجوهر الثقافة السائدة التي تكرّس لقبول الأمر الواقع تحت غطاء «التسليم بما هو كائن» نتيجة تفشي الخوف من الآتي، الموصوم بالمجهول؛ ذلك الخوف الذي يقول عنه الروائي المصري نجيب محفوظ «لا يمنع الموت، لكنه يمنع الحياة».

أما الجانب الآخر، فيتعلق بالمثقف العربي ذاته، وقضاياه التي يناقشها وهي في أغلبها قضايا بداية «النهضة» العربية في منتصف القرن التاسع عشر، ولا يزال ذلك المثقف في جلّه وليس في مجموعه، يتحدث عن الثنائيات التي شغلت تفكير رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وطه حسين، أبرزها الشرق والغرب، الأصالة والمعاصرة. وأغلب الكتابات هي لمعالجة هذه الثنائيات بالأدوات القديمة ذاتها، ويتكلم المفكرون- دون أن نقع في التعميم- عن التوفيق بين الوافد والمستقر في الثقافة، ما يعد سبباً من أسباب إخفاق النهضة العربية، فالتوفيق ليس أداة منعزلة عن السياق، إنما كان نتاجاً لطبيعة التناقضات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المجتمع منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولعل نظرة التوفيق تلك كانت منسجمة مع طبيعة البرجوازية القائمة التي لم تنجز ثورة تؤسس للجديد.

إذاً، لم تكن بوصلة التفكير في معظم الدراسات العربية تشير نحو المستقبل بقدر ما لجأت إلى «النهضة» سابقة التعليب، والجاهزة، ظناً من ذلك المثقف أنه بهذه الطريقة سيلحق بركب التقدم، بادئاً بأسئلة غير أسئلة الراهن، فالسؤال يصنع التفسير، والصياغة السليمة له نصف الإجابة، فاستمر سؤال النهضة العربية المفروض من خارج السياق؛ إذ إن التساؤل عن لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟ أمر مفروض من خارج الذات العربية، لكن الصياغة التي تخصنا أو قد نجترحها تتمثل في «كيف نتقدم؟»، وهي صياغة تتطلب إعادة النظر أكاديمياً في علم المستقبليات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"