عادي

أحمد العسم.. حارس قصيدة النثر

23:07 مساء
قراءة 4 دقائق

علاء الدين محمود

في ساعة صدور المجموعة الشعرية الأولى للشاعر أحمد عيسى العسم، عام 2002، استرق شاعرنا بعض الوقت واختفى عن أنظار أصدقائه الذين تجمعوا للاحتفاء بذلك الحدث، وذهب العسم صوب البحر ليهديه ذلك الإصدار الخاص الحبيب إلى قلبه، والذي وضعه على رمل الشاطئ تاركاً للمد والجزر مهمة أخذه إلى أعماق البحر، وعندما عاد العسم إلى أصحابه الذين سألوا عن سبب تغيبه، قال لهم: «ذهبت لكي أهدي ديواني للبحر وأتمنى من صميم قلبي أن يطالع ما فيه من أشعار».

كان ذلك الديوان هو الأول الخاص بالعسم، بعد أن سبقه إصدار مشترك مع عدد من الشعراء عام 1998، بعنوان «مشهد في رئتي»، ولعل لقصته تلك مع البحر العديد من المدلولات، وربما من أهم ما يمكن للمرء أن يستخلصه منها هو ذلك الولع الكبير لشاعرنا بالبحر الذي ولد في إمارة رأس الخيمة في فريج «محارة» عام 1964، ونشأ وتربى هناك قرب البحر وسمع حكاياته وأساطيره.

كان البيت الذي ولد فيه يطل على البحر مباشرة، وله في طفولته وصباه العديد من القصص مع البحر، ولئن كان ذلك المكان قد شهد مراحل صباه الأولى، فإن العسم لم يغادر بيئته تلك، لا يزال بقرب البحر مثل سنديانة احتضنها الشط تجري حوارية يومية مع الأمواج وتغوص جذورها عميقاً في الرمل.

تمرد

ولعل تأثر العسم، الذي يعد أبرز الأصوات الشعرية في الإمارات في الوقت الراهن، بالبحر وفضائه الممتد وامتداده في الأفق هادراً متمرداً، هو الذي جعله ينحاز لقصيدة النثر، ولأن البحر عميق أيضاً فقد جاءت قصائد العسم وهي تحمل العمق والقدرة على التعبير عن تعقيد الحياة ورسم المفارقات الشعرية والدلالات وبناء صروح من المجاز، يرصد حياة واقعية ويحكي عن أخرى متخيلة بدفق متحرر من قيود القافية ويستقيم نظمه على وزن خاص وترقص كلماته على إيقاع داخلي.

ولئن كان العسم قد أصبح واحداً من أبرز رموز قصيدة النثر في الإمارات، فإن بدايته الشعرية كانت عبر النظام العمودي التقليدي، وكتب بعض النصوص على الطريقة الكلاسيكية التي جاءت في صورة أقرب إلى الخواطر ونشر واحدة منها في صحيفة «الخليج»، عام 1984، وكان ذلك حدثاً لافتاً فقد صار العسم بالشاعر على مستوى «الفريج»، وكانت هناك فرحة كبيرة من أهل الحي؛ إذ برز فيهم ذلك الشاعر، وبطبيعة الحال، فإن ذلك اللون الشعري «العمودي»، هو الذي كان سائداً في ذلك الوقت، وكانت المناهج الدراسية نفسها تزخر بالأشعار العمودية خاصة النصوص العربية القديمة، لكن ذلك لم يستمر طويلاً مع العسم الذي اطلع على العديد من الأنماط الشعرية الحديثة، فقد بدأت التيارات والمدارس التي قطعت مع الطرق التقليدية في كتابة الشعر تظهر في الإمارات.

يقول الشاعر الفرنسي الكبير، بول فاليري: «الأوزان تقليدية والقوافي محافظة»، وعلى ذلك النسق بدأ العسم تمرده على الأشكال العمودية في كتابة الشعر، وبحث عن براحات للقصيدة، ومقدرة على التعبير دون قيود، تماماً كما البحر الذي تربى بقربه، فقد وجد في قصيدة النثر أكثر انطلاقاً وتحرراً واحتشاداً بالتجربة وعبق الحياة وعمقها، وكثيراً ما أرجع العسم اختياره لطريق النثر إلى شخصيته القلقة والباحثة دوماً عن التحرر، فهو يصف نفسه دائماً بالمتمرد الذي اختار أن يشق طريقاً مختلفاً منذ وقت مبكر من حياته، لا يريد أن يعيقه شيء، ويريد لنصه الشعري أن يكون مفتوحاً على براحات ممتدة وليس أثير أزقة أو مناطق منغلقة.

بيان الشحاتين

تمرد العسم بالفعل على الشعر التقليدي وبارح القصيدة العمودية؛ بل وذهب إلى أبعد من ذلك في سبيل التأسيس لطريق جديد عندما شكل برفقة مجموعة من أصدقائه وزملائه الشعراء في رأس الخيمة مجموعة أدبية «الشحاتين»، وكان من بينهم الشاعر عبد الله السبب، وماهر العوبد؛ حيث اتفقوا جميعاً على بلورة خطاب واعٍ ولا يتبنى مشروعاً آخر سوى الشعر، كانت قصيدة النثر هي العامل المشترك بين عناصر تلك الجماعة، وفي البدء لم يكن الطريق ممهداً؛ حيث قوبلت المجموعة بعدم الرضا في الأوساط الشعرية والثقافية في الإمارات، فقد تم تجاهل الجماعة وعدم نشر نتاجاتها في الصحف والمجلات، غير أنّ هذا لم يدم طويلاً، بعد إصرار الجماعة على مشروعها، الذي يحمل اتجاهاً إبداعياً وجمالياً خاصاً؛ حيث أصدرت تلك الجماعة بياناً يحمل شرحاً لرؤاها الإبداعية المختلفة والمفارقة للسائد؛ حيث كانوا يسعون إلى تأسيس نص إبداعي خاص بهم ذلك الذي يعبر عن أفكارهم وتصوراتهم الإبداعية والفكرية في الشعر.

اعتراف

صار الطريق ممهداً أمام «الشحاتين»، خاصة أن مجموعة من المثقفين اعترفت بهم وباتت تتفهم رؤيتهم مثل الكاتب والمحرر الثقافي جمعة اللامي الذي آمن بموهبتهم وقام بنشر نصوص العسم وعبد الله السبب، مما أسهم في تعريف الجمهور ببعض نتاج «الشحاتين»، الذين اتفقوا على أهمية عدم حصر الشعر في إطار الشكل، أو ما اتفقت الذائقة الجمعية عليه، أو كما يقول العسم: «الشعر لا يؤطر ولا تحدده أطر أو كليشهات، هو عالم؛ بل عوالم تحلق في فضاء الحرية التي هي حق مكتسب للشاعر وحده»، ولعل قصة «الشحاتين»، تؤكد عدداً من السمات في شخصية العسم، منها ذلك الإصرار الكبير درجة العناد في سبيل الانتصار لما يحمل من أفكار وتصورات حتى إن جاءت مختلفة ومغالطة لما هو سائد، والصبر الشديد والعزم الأكيد على العمل من أجل القضية التي عمل من أجلها، والتي أتت أكلها بالفعل؛ حيث لقصيدة النثر شعراء وجمهور.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"