عادي
قناديل إماراتية

خالد الراشد.. شاعر يسكن في شجرة

18:38 مساء
قراءة 4 دقائق

-اختار العزلة الاختيارية في جبال الهيمالايا
في داخله صمت يمكن أن يُغطّي جبلاً بأكمله، لكن في داخل هذا الصمت ثمة قارّات من صراخ وصخب العالم، وهو بهدوئه وغنائيته ضابط إيقاع هذا الصمت وهذا الصخب، وإذا أردنا أن نسأل أين يقيم خالد الراشد؟، فمن السهل الإجابة بأنه يسكن في شجرة، أو ينام في حضن جبل؟، وهنا، لا إنشاء ولا مجازات في الشجرة وفي الجبل، فهو منذ عشر سنوات وبعد تقاعده من العمل الإعلامي والصحفي اختار العزلة الاختيارية تماماً في جبال الهيمالايا. يعيش مع الأشجار والضباب، وَيُخيل إليّ أنه يشرب الضباب هذا الشرشف الأبيض المطروح فوق الجبال.
قبل الإحاطة بخالد الراشد ( مواليد دبي 1960) وحياته الجبلية، أشير إلى جيل من الشعراء الإماراتيين يقعون في قوس زمني واحد، هو ثمانينات القرن العشرين، تحديداً منتصف الثمانينات حيث جمع شملهم التعليم الجامعي، وقبل الجامعة، كان لو أن هناك ميثاقاً ضمنياً بينهم مُوَقّعاً أو غير مُوَقّع هو: «الشعر»، ذلك الجيل يتألف من أحمد راشد ثاني، عادل خزام، عبدالعزيز جاسم، مرعي الحليان، خالد الراشد، خالد البدور، نجوم الغانم، وبعضهم بدأ تفعيلياً ثم تحوّل إلى قصيدة النثر، والبعض بدأ بالنثر، وفي الوقت نفسه يكتب القصة القصيرة، والبعض من أولئك الثمانيين له هوى تشكيلي، وآخرون لهم هوى سينمائي، وآخرون لهم هوى مسرحي (.. مثل مرعي الحليان الذي بدأ شاعر قصيدة نثر وهجرها كلياً وجلس في قلب المسرح..)، وعلى أي حال وفي هذا الأفق الثمانيني (التكويني) أو التأسيسي كان خالد الراشد يتشكّل، ويؤصّل لحياته الفنية والجمالية والثقافية. أولاً بقراءات متاحة في حقول معرفية وفكرية وجمالية عدة، وثانياً، سيلتقي في الثمانينات بالفنان حسن شريف، التشكيلي الذي أصبح عالمياً وَسَوّى من الأشياء البسيطة أفكاراً إنسانية عظيمة.
حسن شريف، لا يجب مُطلقاً أن نتجاهل أَثَره الضمني وغير المباشر في محيطه الشعري الذي كان يصنعه شعراء الثمانينات: فقد كان بالقرب منه دائماً كاتب هذه السطور في بيته الشعبي في السطوة، وكان بالقرب منه عادل خزام، ونجوم الغانم، وأحمد راشد ثاني، وخالد الراشد.
** ذوق
أريد من وراء ذلك كله الإشارة إلى الذوق الجمالي التشكيلي في شخصية خالد الراشد، إنه ذوق أولئك الذين يتفاعلون مع الأشياء الجميلة بصمت وهم يخلقون تلك الكيمياء الخاصّة بهم من دون فرقعات ومبالغات. إن قراءاته هادئة وعميقة، ورؤيته للفن والرسم والنحت والموسيقى والمسرح تنطلق أولاً وأخيراً من مزاج شعري فقط. الشعر هو حياة خالد الراشد. إنه يعيش على الشعر. الشعر مركز حياة خالد الراشد، لذلك لم يكتب غير الشعر. حياته روايته، ولكنه لم يكتب الرواية. حياته مسرحية أيضاً ولكنه لم يكتب المسرح. وهو يقول بكل وضوح: كل ما أكتبه سيرة ذاتية، أي إن حياته مصبوبة في شعره. يقول.. «.. أعتبر أن كل ما أكتبه هو سيرة ذاتية. لكنها سيرة منفتحة على اللون. والجبال، والفضاءات الواسعة والناس..».
دعني هنا التقط مفردة (الجبال) وأعود إلى تجربة خالد الراشد في الهيمالايا، وهي التجربة الوجودية، الجمالية، التأملية، الفلسفية الأهم في حياته حتى الآن، فمنذ أن تقاعد خالد الراشد من العمل الصحفي والإعلامي اختار جبال الهيمالايا حياةً وعزلةً واختياراً إرادياً لشعرية المكان وروحه الجمالية، وكان راشد عمل مدير تحرير الأخبار في تلفزيون أبوظبي، ومارس العمل الثقافي الصحفي في الزميلة الاتحاد وهي تجربة مهنية في حياته تجدر الإشارة إليها من حيث دقة العمل وانتظامه وأخلاقياته النابعة من شخصيته كشاعر.
لم يقترح أحد الهيمالايا على خالد الراشد، ولم يغادر إلى الجبال المؤثثة بأشجار التفاح لسبب قهري أو إجباري، بل روحه دفعته دفعاً إلى مكان مصفىّ من تبعات المدن الصناعية والمزدحمة بالأصوات والغازات والعنف في العالم.
ذهب إلى الهيمالايا خالد الراشد لأنه ذهب إلى العلوّ والقمم والمرتفعات حيث يرمز المكان بصورته الجغرافية هذه إلى روح الشعر التي تنطوي على روح الطائر.
** تواصل
يشير الراشد في أحد الحوارات الصحفية معه إلى تجربته في الهيمالايا قائلاً.. «.. أردت الخروج إلى فضاء الطبيعة، بحثاً عن الاخضرار والحب والجمال، وبحثاً عمّا يلهمني، وهناك وجدت ما أريده..»، ويقول أيضاً.. «.. أهم شيء في التواصل هو اللغة، وأنا أتقن لغة السكان المحليين في الهيمالايا ، بالإضافة إلى لغات عدة، ولديّ الكثير من الأصدقاء هناك، لذا فأنا لا أجد نفسي منعزلاً هناك، بل متوحّداً مع ذاتي..».
إذاً، لا مكان يمكن أن يحتويه الشاعر إلاّ إذا كان يمتلك زمام لغته،.. وجمالياته.. اللغة الجبلية تلك تعزّز شعرية الراشد، وهو بالضرورة صديق الشجرة ومقيم في أغصانها وثمارها طالما أن الشجرة هي جزء من الصورة الكلية للمكان.
إقامة خالد الراشد نجم عنها الكثير من الشعر. كتب هناك من وحي المكان، ومن وحي امرأة رأى أنها قطعة من حياته. «راما روز» هي المجموعة الشعرية التي اشتغل عليها الراشد في جبال التفّاح، وأنجز في - خلوته الجبلية مجموعة «منمنمات» ومجموعة «الياسمين الأبيض»، وفي سيرته الشعرية «مزراب الشمال» و«المدار»، ومجموعة «كلّه أزرق». وهذه المجموعة لها حكاية، فقد كان الشاعر والرسام محمد المزروعي صديق الراشد وراء نشر مجموعة «كله أزرق» التي تضم قصائد كتبها خالد على مدى 25 عاماً، ولكنه كان يكتب ويترك ما يكتبه للرياح إن جازت العبارة، إلى أن جاء المزروعي ولملم هذه القصائد من فم الريح، وجمعها في كتاب. هو كتاب صديقه خالد الراشد، وصدرت عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات.
تلك هي الصداقة التي تترجم ذاتها في الوفاء للإنسان أولاً ثم الوفاء للشعر، وكم من الشعراء كان يكتب ويهمل، إلى أن جاء من يجمع هذا (الاهمال) ويحوّله إلى ذاكرة.
خالد الراشد كائن شعري بامتياز. شعره بسيط بساطة عطر الوردة الوحيدة في الحديقة ولكنه عميق. شاعر لا يعيش بلا جبال وبلا حدائق وبساتين، وأخيراً، لاحظ إذا أردت أن (البستان) مفردة تقرأ كثيراً في معاجم الصوفيين، وفي حياة شاعر الأزرق والمنمنمات شيء من هذه الروح المتصوّفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yscp678e

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"