عادي

أحمد عبيد المطروشي.. الباحث عن أمواج الريح

19:49 مساء
قراءة 4 دقائق
  • -حكاياته الأولى مسكونة بمفردات الخوف

يوسف أبولوز
وُلِدَ بالقرب من البحر، وَشبّ بالقرب من البحر، وسوف يشيب بالقرب من البحر، فكان الماء كريماً على أحمد عبيد المطروشي، حين رأى الدنيا بحراً في بحر وهو يولد في عام 1971 في منطقة (ليوارة) في عجمان. منطقة غوّاصة وبحّارة. ناس طيّبون يأكلون خبزهم من عرق جبينهم ومن عرق البحر إذا جاز الوصف، وكان الطفل أحمد لا يكلّ ولا يملّ من البحر. يدفعه فضوله الطفولي آنذاك إلى مراقبة ديدان البحر وكائناته الصغيرة التي تغادر الماء، وتأخذ بالسعي على الحجارة.

قواقع البحر، ومراقبتها وجمعها كانت شبه (مهنة) طفولية للفتى الذي كانه أحمد، لا بل أهله كما يقول أهل بحر، ويقول لي وهو يتذكر تلك الأيام المائية «البحر كان حياة طفولتي».

خرج أحمد المطروشي من عائلة بسيطة في مثل بساطة الماء، الوالدة لا تقرأ ولا تكتب، لكنها تحفظ القرآن الكريم كاملاً، رَبّت أولادها على الدين والستر ومحبة الناس. سيدة عادية بسيطة لم يأخذ أحمد عنها أي فلسفة مثلاً؛ بل كان يغرق في كرم أمومتها الغزير بالدفء ورقة الإنسان.

والده درس المحاسبة في الهند في أوائل خمسينات القرن العشرين، ويحدث أبناءه عن صديق له فلسطيني درس معه أيضاً في الهند، وسوف يعمل الأب في الدمام في المنطقة الشرقية في السعودية ويعمل في القطيف والكويت، ويعود إلى عجمان.

**بذرة

لم تكن في بيت الوالد مكتبة تجذب أحمد للقراءة، فقط بضعة كتب للوالد دينية وتاريخية، لكن الانجذاب للقراءة سيكون في الإعدادية والثانوية: سيعرف أحمد كثيراً من شعراء العرب عن طريق المدرسة: أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، الأخطل الصغير، أبو ريشة، وغيرهم من شعراء العمود الخليلي، ويتذكّر مدرّساً سودانياً كان يشجعه على القراءة والكتابة، ومن الطبيعي أن الإنسان - القابل لبذرة الشعر إنما يبحث عن هذا الفن بالفطرة. يقول إن المدرس السوداني كان اسمه (إبراهيم حمدت الله): «.. كان يشجعني على تعلّم علوم اللغة: البلاغة، والنحو، والصرف، وكتابة موضوعات الإنشاء..».

هل من ذلك المدرّس بدأت شرارة الشعر عند أحمد المطروشي؟ ربما، لكنه يعود بذاكرته إلى قراءات الثانوية وما بعدها وبخاصة الشعر الفرنسي: بودلير، لوتريامون، رامبو، ثم شيئاً فشيئاً ينفتح أحمد على قراءات في الفلسفة: سارتر، هيجل، ثم الرواية، إلى أن تكوّنت له شخصية ثقافية استطاع من خلالها أن يرى نفسه في مرآة الشعر، ليصدر في عام 2008 أوّل مجموعة شعرية له بعنوان «الوصول بلا نهاية» وصدرت عن دائرة الثقافة في الشارقة، غير أن أحمد المطروشي الذي يُعتبر من الجيل الشعري الإماراتي الجديد يحتفظ بثلاثة مخطوطات سابقة ينوي إصدارها في مجموعة كاملة تؤشر بشكل على تجربة شاعر تأثر بشكل خاص بالفلسفة الوجودية، وسوف نعاين مثل هذا الأثر في مجموعته «الوصول بلا نهاية» من خلال مفردات بعينها تحيلنا إلى التكوين القرائي الأول لشاعر يكتب بهدوء، بعيداً عن مركزية الضوء والإعلام والنقد الأدبي الذي لم يرصد التجربة الشعرية الجديدة لبعض الأسماء الإماراتية التي ظهرت بوضوح في السنوات العشر الأخيرة، ومن جيل أحمد المطروشي يُذْكَر دائماً صديقه الشاعر جمال علي الذي أصدر أيضاً مجموعة أولى جاءت بعنوان، «حضارة الرماد».

صحيح أن القراءات الفلسفية والجمالية والسردية تعزز البناء الشعري الأول عند الشاعر، وبخاصة القراءات الأولى، لكن هنا صور ووقائع وحكايات أولى أيضاً. أما حكاية أحمد الأولى فتظل دائماً حكاية الخوف. الخوف حتى من الظهيرة «لا تخرج في الظهيرة»، الخوف من الأزقة المعتمة، الخوف من الليل، الخوف من الجِنّي الغامض المتربّص بالأطفال عند الغروب، غير أن أحمد كان يواجه خوفه دائماً بردة فعل واحدة هي: «الهرب».

كان يهرب من الخوف، وقد يكون خوفاً وهمياً شعبياً لا أساس له ولا كينونة. فكان يدخل الأزقة المعتمة ركضاً، ويخرج منها ركضاً حين كانت أمه ترسله ليشتري الخبز من مخبز - القدس في عجمان في منتصف سبعينات القرن العشرين.

**فرار

هل نجد أصداء العتمة والخوف والمكان الغامض الأول في مجموعته «الوصول بلا نهاية».. نعم.. نجد ذلك، واقرأ معي:

يقول أحمد عبيد المطروشي في نصّ له بعنوان «عتمة وصراخ»: «.. عندما أدخل البيت- تنتابني نوبة العتمة../.. وصراخ طويل لا يسمعه أحد سواي../.. نداء، يتحوّل المكان كآلة تعذيب../.. تتطاير الأصوات من أذني../.. أحاول الفرار مني،../.. فلا أجد الباب ولا النافذة..».

... ولكن ماذا عن البحر؟.. هل كان مصدر خوف هو الآخر بالنسبة لذلك الفتى كان يرُى راكضاً في فرجان «ليوارة»؟؟.. لا، لم يكن البحر ولا مرة واحدة باعثاً على الخوف. إنه ماء الطمأنينة. لذلك حين نقرأ نصوص «الوصول بلا نهاية» لأحمد المطروشي فإننا نرى ما يبعث على الحنين دائماً. مثل طيور النورس. نجد شواطئ البحر ولا نرى البحر لأنه لم يكن ذات يوم هاجساً مخيفاً - لكي ينعكس في اللّاوعي. بل كان البحر بيتاً وملاذاً حين يتحول إلى يقين.. ولعلّها قصيدة واحدة صغيرة لأحمد المطروشي فقط ترد فيها كلمة «بحر» كأنه نسي البحر وراح يتذكره بالفطرة، لأن ماءً كهذا لا يغيب، ولا ينبغي أن يغيب.. «.. نبحث عن تصوّف الصمت../.. وعزلة اليقين../.. عن موج وصرخة ريح../.. اللّاعودة إشارة عبور../.. رائحة البحر خدر طويل../.. ولا نريد الاستفاقة../.. الليل وسادة الهائمين..».

من قاموس أحمد عبيد المطروشي: العدم، الفناء، السماء، المطر، البكاء، الزمن، الفراغ، الحياة، وسوف يكتب الشعر، ويظل يكتب كما لو أنه خائف من شيء ما، يكتب ويكتب ويجري وحين يمتد به الجري، ويظن أنه وصل إلى نهاية الشوط، يكتشف أنه لا نهاية، ولا وجود لنهاية لا في الشعر، ولا في الخوف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4mats4dc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"