التداخل الثقافي بين العرب والفرس

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عبدالله أحمد آل علي *

يصف إدوارد سعيد الحراك الحضاري الإنساني بأنه عملية تفاعلية مستمرة بين الحضارات والثقافات للبلدان، ويؤكد سعيد أن التداخل الثقافي بين العرب والفرس كان مؤثراً في تطور الثقافتين، العربية والفارسية، على حد سواء، حيث استفاد كل منهما من الأفكار والمعارف والتقاليد الأخرى لصقل وتحسين تراثهما الثقافي.

 ويضيف، أن الحراك الحضاري الإنساني لا يتوقف عند حدود الدول والحدود الجغرافية، بل يمتد عبر القارات والثقافات والمجتمعات المختلفة، وأن التفاعلات الثقافية والتبادلات الثقافية تستمر في شكلها وأساليبها المختلفة تأخذ منتوجها الحضاري ضمن الوعاء الحضاري الإنساني وتاريخه.

  ولو انطلقنا من هذه المقدمة الميسّرة سيتضح لنا أن مسار التداخل الثقافي بين الفرس والعرب بدأ منذ  ما قبل الإسلام، حيث كان الفرس جزءاً من الحضارات الإيرانية القديمة، وكانوا يتحدثون اللغة الفارسية، ويمارسون الزرادشتية كديانة دينية. وكانت المناطق التي تضم اليوم إيران والعراق والخليج العربي موطناً للفرس والعرب.

   وفي فترة الجاهلية، تداخلت الثقافة الفارسية مع الثقافة العربية، وتبادل الطرفان المعارف والعادات والتقاليد، وكان لذلك تأثير كبير في التاريخ والثقافة العربية. ومن أبرز مظاهر هذا التداخل كان للغة الفارسية تأثير كبير في اللغة العربية في فترة الجاهلية، حيث كانت الفارسية لغة الحكمة والأدب والشعر، وأضاف العرب عدداً من الكلمات الفارسية إلى لغتهم، والتي استخدموها في الشعر والأدب الحواري. حيث تأثر الشعر العربي بالشعر الفارسي الذي كان يتميز بالأسلوب الراقي، والمشبّع بالمشاعر، وأضاف الشعر الفارسي الكثير من المفردات والأفكار الجديدة إلى الشعر، وأيضاً تأثرت اللغة الفارسية باللغة العربية على مستوى القواعد والمفردات والأسلوب الأدبي. وتعلمت النخبة الفارسية اللغة العربية كلغة ثقافية ودينية وسياسية. كما استعمل الشعراء الفرس الأشعار العربية في أعمالهم الأدبية.

 وهناك ثلاثة نواظم لهذا التداخل الثقافي بين الفرس والعرب، فالدين الإسلامي وجغرافية الخلافة والاستمرارية الزمنية ساهما في كيمياء التداخل الثقافي.

  بدأ هذا التأثير المتبادل في القرن السابع الميلادي، عقب الفتوحات الإسلامية والغزو العربي للإمبراطورية الساسانية (الفارسية). وفي عام 651م، انهارت الإمبراطورية الساسانية وتوحدت الأراضي الفارسية تحت حكم الخلافة الإسلامية. وكان الدين الإسلامي هو العامل الرئيسي الذي ساهم في التواصل والتداخل الثقافي بين العرب والفرس. فقد تبنّى الفرس الإسلام بعد فتح الخلافة الإسلامية، واستخدموا اللغة العربية كلغة دينية وثقافية في جميع أنحاء الخلافة.

  وشكلت جغرافية الخلافة الناظم الثاني في تسهيل التداخل الثقافي بين العرب والفرس، حيث كانت الخلافة تضم مناطق واسعة تتراوح من شبه الجزيرة العربية حتى إيران والعراق وأجزاء من آسيا الوسطى. وقد تم تطوير النقل والاتصالات في الخلافة، ما سهل التواصل بين العرب والفرس وتبادل الثقافة والمعرفة.

 وتعتبر الاستمرارية الزمنية في هذه المنطقة الشرق أوسطية الناظم الثالث للتداخل الثقافي بين العرب والفرس من خلال تسهيل تبادل الأفكار والمعارف وتطويرها بشكل مستمر. فقد استمر هذا التداخل الثقافي من فترة ما قبل الإسلام حتى فترة الخلافة العباسية، وما بعدها مرتبطاً ومؤثراً ومتأثراً بالحضارات التي جاورته.

  وتعتبر العلوم والفلسفة من بين المجالات التي تميز التداخل الثقافي بين العرب والفرس. فقد ساعد علماء فارس على نقل العلوم والمعارف من الهند والإغريق إلى العالم العربي والإسلامي ما أنعكس على الناتج الحضاري للدولة الإسلامية.

 والجدير بالذكر في ما سبق من هذا التداخل ومنتوج الحضاري، إن الغرب لم يميز في استفادته من نتاج الحضارة العربية الإسلامية بين ما هو فارسي، وماهو عربي، حيث يرى كلا الطرفين فاعلاً واحداً: وحدة العناصر الناظمة الثلاثة الدين الإسلامي وجغرافية الخلافة والاستمرارية الزمنية.

   وبالتالي، تعتبر الحضارة العربية الإسلامية شريكة في كل ما تعرفه الحضارة البشرية اليوم من كسب معرفي حضاري متراكم، منصهرة في الوعاء الحضاري الإنساني العالمي.

  وفي نهاية الأمر ونحن نعيش عالم اليوم المتوحد الاتصال والتواصل بين الشعوب والدول، يمكن اعتبار هذا التفاعل والتداخل الثقافي بمختلف صنوفه بين شعوب العرب والفرس والثقافات الأخرى من المنطقة، قوة ناعمة تساعد على تعزيز الاستقرار والتعاون والتفاهم بين الدول، وتساهم في تحقيق التنمية الشاملة في هذه المنطقة الدافئة وهي في أمسّ الحاجة لزيادة هذه الصيرورة الحضارية ذات الهوية الشرقية، زماناً ومكاناً.

* باحث في الشؤون الأمنية 

juma0660@

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4wj9jumy

عن الكاتب

باحث متخصص في القضايا الأمنية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"