الصين وروسيا ومستقبل القطبية الأمريكية

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

منذ انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية منطقها على الساحة الدولية، لتكرس أحادية قطبية، دعمتها بإمكانياتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، مستغلة في ذلك انشغال روسيا بتركة الاتحاد السوفييتي المنهار، في علاقة ذلك بعدد من الإكراهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية الموروثة من ناحية، وتركيز الصين على بيتها الداخلي.

وعلى الرغم من المحطات الدولية الكبرى التي شهدها العالم منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، كما هو الأمر بالنسبة لحرب الخليج الثانية، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والتدخل العسكري في أفغانستان وغزو العراق، فإن الولايات المتحدة استثمرت كل إمكانياتها الخشنة، وجهودها الناعمة أيضاً في سبيل تعزيز حضورها الدولي، وصدّ كل الطموحات التي تعبر عنها بعض القوى الدولية الطامحة للاستئثار بمكانة ضمن هذا النظام.

وبعد مرور نحو ثلاثة عقود على إعلان الولايات المتحدة قيادة «النظام الدولي الجديد»، مثّلت جائحة كورونا محكّاً حقيقياً لمساءلة مستقبل هذا النظام مع الاختلالات الدولية التي كشفتها الجائحة، وسعي الصين إلى تحريك دبلوماسية المساعدات، كسبيل لكسب تعاطف المجتمع الدولي، وللترويج لإمكانياتها وقدراتها التي تؤهلها للتموقع كقطب وازن في النظام الدولي.

ومع اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، عاد التساؤل بشأن مستقبل هذا النظام إلى واجهة الأحداث بقوة من جديد، وبخاصة مع إصرار روسيا على تحدي الغرب، والتلويح باللجوء إلى الخيار النووي لمواجهة كل التهديدات والتحركات التي يمكن للغرب أن يستهدف بها سيادة روسيا، بينما ظل الرئيس بوتين يؤكد من حين لآخر، رفض بلاده للواقع الدولي الذي فرضته الولايات المتحدة من جانب واحد منذ نهاية الحرب الباردة، مبرزاً جاهزية روسيا للتموقع كفاعل دولي قوي داخل النظام الدولي.

ويعتقد الكثير من المراقبين أن هذه الحرب تمثل مرحلة مفصلية، تأخذ طابعاً من الشدّ والجذب بين روسيا التي ترفض تموقع حلف شمال الأطلسي على حدودها، ومن خلالها رفض هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة على العالم، بينما تصرّ واشنطن على إنهاك الخصم الروسي، وإخراجه من معادلة التوازن الدولي.

يبدو أن الصين وروسيا على وعي كبير بالفرصة التي تمثلها الظرفية الدولية التي تحيل إلى قدر من الاستياء الدولي من السياسات الأمريكية خلال العقدين الأخيرين، وحرصهما على ملء الفراغات التي خلّفها الانكفاء الأمريكي، والانسحاب العسكري من أفغانستان والعراق. وفي الوقت الذي تراهن فيه روسيا على القوة العسكرية ومنطق الردع، كسبيل لفرض قطبيتها في مواجهة القوة الأمريكية، فإن الصين تراهن بشكل أكبر على مقوّمات القوة الناعمة، من خلال العمل على تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع مختلف دول العالم في آسيا وإفريقيا، وإرساء مواقف متوازنة بصدد عدد من القضايا والنزاعات الدولية، وتهيئة الظروف لإطلاق مشروعها الضخم المعروف بخطة «الحزام والطريق» الذي يفترض أن يعبر أكثر من 120 دولة عبر العالم، والتسويق لنفسها كقطب داعم للسلام عبر توظيف دبلوماسية المساعدات الإنسانية، وإطلاق وساطات ومساع حميدة بصدد نزاعات معقّدة (المصالحة السعودية الإيرانية).

ويثير التقارب الصيني الروسي الذي تعزّز بشكل كبير خلال الفترات الأخيرة، مخاوف جدية داخل الأوساط الأمريكية، بعدما تزايد حجم التعاون الاقتصادي بين الجانبين، وارتفاع نسبة واردات الصين من النفط والغاز الروسيين، وإعلان الرئيس الصيني سير بلاده نحو إعطاء الأولوية لتطوير العلاقات الاستراتيجية مع موسكو، والقبول الروسي المبدئي بالخطة الصينية التي طرحتها مؤخراً لوقف العمليات العسكرية في أوكرانيا.

ويمكن القول إن العلاقات بين البلدين مرشحة للتطور أكثر، وحافزهما المشترك في ذلك، هو الرغبة في تقويض الأحادية القطبية الأمريكية، والقناعة الدولية المتزايدة بضرورة تجاوز هذه الأحادية التي كلّفت العالم الكثير من الإشكالات والمعاناة، وهو ما تعكسه كثير من التحركات الإقليمية في آسيا وإفريقيا، في سياق البحث عن تحالفات وتموقعات جديدة، تحيل إلى أن ثمة تحولات جذرية ستطال ركائز النظام الدولي القائم.

إن الطموحات الصينية الروسية المتصاعدة بهدف الظفر بمكانة لائقة في النظام الدولي لا تعني البتة إزاحة الولايات المتحدة كقوة عظمى، ولكن الأمر يتعلق بالرغبة في إرساء نظام تعدّدي ومتوازن، تحظى فيه بكين وموسكو بمكانة وازنة، إلى جانب واشنطن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2xca7b46

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"