ماذا ستفعل الدول بمديونياتها؟

22:23 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *

وفقاً لتقديرات معهد التمويل الدولي، فقد بلغ الدين العالمي حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو 2022، 305 تريليونات دولار. يشمل ذلك الديون العامة والديون الخاصة؛ وذلك على النحو التالي: 23% ديون خاصة بالعائلات والأفراد، و38% ديون خاصة بالشركات، و39% ديون مستحقة على الحكومات والمؤسسات الحكومية. ويتزايد نمو الدين العالمي (كان معدل نموه في عام 2020، 28%) على مدار الساعة بمعدل مخيف يشبه ساعة يوم القيامة في طريقة احتساب مدى الاقتراب (أو الابتعاد) عن لحظة الصدام النووي. ويعادل إجمالي قيمة الديون العالمية 350% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي؛ وهو أعلى بنسبة 26% من رقم ما قبل الأزمة المالية العالمية (تحديداً في حزيران/يونيو 2007) البالغ 278%. وبتقسيم إجمالي الدين العالمي على سكان العالم، يكون نصيب كل فرد من هذه الديون 37500 دولار، مقارنةً بحصته البالغة 12000 دولار من الناتج المحلي الإجمالي.

من إجمالي عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ 193 دولة، 158 منها، أي بنسبة 81.9%، مديونة، إما لدائنين محليين، وإما لدائنين في الخارج، أو للاثنين معا. وتتفاوت حدة هذه المديونيات بين منخفضة إلى فائقة الحدة. تستوي في ذلك الدول الرأسمالية الكبرى والدول النامية المرتفعة والمتوسطة والمنخفضة الدخل على حد سواء. فكيف سيتم سداد هذه الديون؟

بالنسبة للديون الخاصة، فما من سبيل أمام العائلات والأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة، سوى سداد الديون المستحقة عليهم في مواعيد استحقاقها. وإذا ما أخفقوا، لسبب من الأسباب، ووصلوا الى حالة الإعسار والتخلف عن السداد «Debt default»، فإن الجهة الدائنة سوف تحجز على جميع أصولهم وممتلكاتهم، بما في ذلك منازلهم الخاصة لاستيفاء قيمة مديونيتهم. لكن الأمر سوف يختلف بالنسبة لمديونية الحكومات، خصوصاً اذا ما كانت مديونيتها محلية. فحين تتعرض للإعسار المالي، ولا تتوافر على رصيد كاف من الأموال لسداد أحد ديونها المستحقة محلياً في تاريخ معين، فكل ما عليها فعله هو طباعة النقود وتسديد المبلغ للجهة الدائنة. ذلك لأن الجهة الحكومية تتمتع حصرياً بامتياز صك وطباعة النقود المتداولة، المسماة النقد الالزامي أو النقد القانوني «Fiat money»؛ وكلمة «فيات»، هي كلمة لاتينية تعني «يجب أن يتم». ومع أن هذا التدبير الذي تلجأ اليه عادة عديد حكومات الدول المعسرة، ينتهك أساسيات علم الاقتصاد، وتحديداً، القاعدة النقدية التي تم بموجبها – تاريخياً – إحلال النقود الإلزامية محل السلع أولاً والذهب والفضة تالياً، بحيث تقوم العملة المتداولة بوظيفة البديل فقط للذهب والفضة (والسلع المادية) التي تمثل القيمة الحقيقية للنقد، والتي أبقيت لدى جهة الاختصاص (البنوك المركزية)، تسهيلاً لعملية التداول في السلع والخدمات بين الأفراد والشركات والدول، الا أن كثيراً من الدول تلجأ اليه استغلالاً لحقها السيادي في طباعة النقود، رغما عن حقيقة أن هذا «التدبير» (طباعة النقود) يخرق التوازن بين النقد وبين مقابله المادي (السلعي والخدماتي)، ويؤدي الى تفوق الكتلة النقدية على جملة السلع والخدمات المتاحة للتداول، ما يفضي الى ما يسمى التضخم المفرط «Hyperinflation».

فما الذي يحدث حين تعجز دولة عن سداد ديونها الخارجية؟ في الواقع، هناك الكثير من البلدان النامية، لاسيما في قارتي إفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تخلفت عن سداد ديونها بسبب تدهور أوضاعها المالية. من القارة الآسيوية ينهض لبنان كمثال، حيث أخفقت حكومته في 9 مارس 2020، في سداد سندات دولية بقيمة 1.2 مليار دولار. وكانت تلك أول مرة في تاريخ علاقة لبنان مع الاستدانة الخارجية الممتد 77 عاماً (بلغ الدين العام للبنان 90 مليار دولار)، التي يمتنع فيها عن سداد ديونه الخارجية. كانت النتيجة أنه في نفس اليوم، فقدت الليرة اللبنانية المربوطة رسمياً بالدولار، 40% من قيمتها في السوق السوداء. ولم يكن لدى البنوك اللبنانية العملة الصعبة لإعادة الأموال للمودعين.

صحيح أن البلدان التي تقترض الأموال، يتعين عليها، مثلها مثل الشركات والأفراد، أن تسددها بطريقة مماثلة. لكن إذا فشلت الشركة في سداد ديونها، فمصيرها الحجز القضائي على أصولها وجميع ممتلكاتها وتصفيتها لسداد مديونيتها. بينما لا يحدث ذلك مع الحكومات. فعندما تتخلف دولة عن سداد ديونها، فإن انعكاسات ذلك سوف تقتصر على اقتصاد الدولة وعملتها الوطنية. إنما، لن يكون لدى المقرضين أي محكمة دولية يلجأون إليها كما في حالة دائني الشركات والأفراد. فعادة ما يكون للمقرضين القليل من الفرص لاستعادة أموالهم. فلا يمكنهم الاستيلاء على أصول بلد ما بالقوة ولا يمكنهم إجبار الدولة على الدفع. ولذلك أنشأت الدول الرأسمالية المتقدمة «مرجعيات» لحماية مصارفها ومؤسساتها المالية المقرضة للدول النامية من حالات التخلف عن السداد. نادي لندن لتجمع المصارف الخاصة الرأسمالية المقرضة للدول النامية الذي أنشئ عام 1976 بسبب تخلف زائير عن سداد ديونها للبنوك الغربية؛ ونادي باريس للدول الرأسمالية الغربية المقرضة للدول النامية الذي تأسس عام 1956. فهل يصل العالم الى مرحلة من أزمة اختلال التوازنات المالية الوطنية والدولية، نتيجة لتراكم جبل الديون العالمية وتفاقم مشاكل الإعسار والتخلف عن السداد، تجبر بلدانه على جعل مسألة شطب الديون، أحد آخر الحلول بالكي للخروج من نفق الأزمة؟

* خبير اقتصادي بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5xz6mte9

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"