عادي

عمر خيرت.. شاعر الموسيقى

22:42 مساء
قراءة 5 دقائق
عمر خيرت

القاهرة: وهيب الخطيب

عمر خيرت مشوار فني طويل، ممتد لأكثر من خمسين عاماً، وإن قلت إنه واحد من أهم الموسيقيين العرب الذين تميزت ألحانهم بالجمع بين الموسيقى الشرقية والغربية، فهذا ليس بجديد، فموسيقاه عالمية وإن ظلت تحمل سماتها المصرية، ثيمة حافظ عليها، ليصل نتاجه إلى الروح مباشرة، وفي كل أشكاله الموسيقية التي ألفها كافة، سواء لأعمال درامية أو غنائية أو باليهات أو مقطوعات موسيقية.

خيرت، الذي منحته جائزة الشيخ زايد العالمية للكتاب، في دورتها السابعة عشرة لعام 2023، لقب شخصية العام الثقافية، وهو لقب تمنحه الجائزة سنوياً لشخصية يتم تكريم مسيرتها الإبداعية، سليل عائلة فنية وثقافية، ضاربة جذورها في الفن المصري والعربي.

يروي خيرت، المولود في 11 نوفمبر 1948، أنه بدأ تعلم الموسيقى منذ أن كان في الخامسة من عمره، إذ ينتمي إلى عائلة موسيقية، فجده محمود خيرت، محام ورسام وشاعر وموسيقي، وفي منزله في شارع خيرت المسمى على اسم عائلته، شهدت جدرانه ولادة عائلة فنية موسيقية مثقفة، وكان محمود يعقد صالوناً فنياً، اجتمعت فيه ألمع الأسماء في عالم الفن والزمن القديم أو كما يسمونه «الزمن الجميل»، من بينهم الشيخ سيد درويش والمثّال محمود مختار، والأديب مصطفى لطفي المنفلوطي.

ومما يذكر أن أول لقاء جمع بين كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، في بداية مشوارهما، كان في بيت جد عمر خيرت، وغنى الاثنان جزءاً من رائعة سيد درويش «العشرة الطيبة»، في حضور درويش ذاته، وهي الرواية التي سبق أن أكد خيرت سماعها بنفسه من عبدالوهاب.

مثل أعلى

الصبي عمر، خاصة في خمسينيات القرن العشرين، تطلع إلى عمه الموسيقار أبو بكر خيرت، المهندس والمعماري وعازف البيانو ومؤسس الكونسرفتوار، المعهد العالي للموسيقى، ليعتبره مثله الأعلى وحلمه الكبير.

ويستهل الفتى عمر، المشوار منذ سن الخامسة بالعزف على البيانو، وبدأت الملامح الموسيقية لشخصيته في الظهور، وهو لم يتجاوز 11 عاماً، خلال دراسته بالكونسرفتوار على يد البروفيسور الإيطالي كارو، واستكملها في لندن لدراسة التأليف الموسيقي بكلية ترينتى.

أما بدايته الفنية، فكانت مع الفرقة الموسيقية «Les Petits Chats» أي القطط الصغيرة، التي ظهرت في نهايات الستينيات وتحديداً في عام 1967. ومن بعدها بدأ التأليف الموسيقي منذ عام 1979، ليقدم أول أعماله الكبرى حين أطل على جمهوره لأول مرة مع الموسيقى التصويرية لفيلم «ليلة القبض على فاطمة» عام 1983.

وفي الفيلم المشار إليه، بدأت علاقته بالممثلة المصرية الراحلة فاتن حمامة، التي مثلت نقطة تحول في حياته، ويحكي في لقاء تلفزيوني سابق، أنها منحته الثقة بالنفس في التأليف الموسيقي، بدلاً من الاقتصار على التوزيع والعزف والارتجال، مضيفاً أن حمامة هي التي طلبت منه شخصياً تأليف موسيقى الفيلم.

وهنا يؤكد الأكاديمي المصري كريم الصياد، في دراسة عن الموسيقى المصرية الحديثة، أن بداية بيتهوفن لم تختلف كثيراً عن ذلك؛ فقد بدأ مرتجلاً، وانتهى مؤلفاً عظيماً. وكانت موسيقى «ليلة القبض على فاطمة» بالنسبة إلى خيرت هي البداية الحقيقية الناجحة، وصار لحن هذا الفيلم من أشهر مقطوعات خيرت. أو بقوله هو «كانت جواز سفري الموسيقي إلى قلب الجمهور العربي».

ويستدرك الصياد هنا، أنه لا بد أن نذكر كذلك، في سياق تكوين موسيقى خيرت، عمله في الوهابيات؛ حيث طلب محمد عبدالوهاب مقابلته، واقترح عليه توزيع بعض ألحانه، وبعد مشقة استطاع خيرت القيام بهذه المهمة وحاز تقدير موسيقار الأجيال.

ولمعرفة دور موسيقى «ليلة القبض على فاطمة» في تاريخ الموسيقى العربية الحديثة عموماً، لا في حياة خيرت فحسب، الأمر الذي يتطلب منا أن نتوقف قليلاً أمام شكل الموسيقى العربية والمصرية وقت صدور المقطوعة، بداية الثمانينيات من القرن الفائت، إذ كانت الساحة الموسيقية قد بدأت تندرج تحت سيطرة الموسيقى السريعة، التي أسموها وقتها ب«الشبابية»، حتى الأغنية باتت سريعة قصيرة والموسيقى إيقاعية، كان هذا هو السياق السائد، فالعالم لم يعد سوى شظايا وهجين، والأفكار والكتابات والأنساق مجرد لعب ومحاكاة ساخرة ومعارضة، وموقفها -أي الأنساق برمتها- أصبح ساخراً مضاداً للأيديولوجيا، وروحاً تقع على حافة الفن الهابط «الكيتش»، وأسلوباً يسخر مما كانت الحداثة تعده فناً رفيعاً.

ولكن عمر خيرت يدرك أنه، في هذا السياق، يمكن أن تقدم ما هو مختلف، لتصبح مقطوعاته مغامرة، تحسب له، جدران في تأسيس بنيان جيل موسيقي كلاسيكي، يجايله فيه الراحلان جمال سلامة وعمار الشريعي، والمؤلف الموسيقي راجح داود، وغيرهم.

مزيج

هنا يقرر خيرت أن يمزج بين الشرقي والغربي، يتسلح بالبيانو كعمه أبي بكر، يدخل إلى الأوركسترا الغربية بصحبة الآلات والمقامات الشرقية، والعود والقانون، ويمزج بين ضوضاء الشارع، وبين موسيقاه الأنيقة الراقية، كما في افتتاح موسيقى رائعته «صراع الأحفاد»، التي تبدأ بضوضاء سيرك شعبي، كالتي تؤدَّى في الموالد، ثم يقطعها الكمان الأول، وتبدأ الألحان الأساسية.

وضمن مشواره أيضاً، وخلاف الموسيقى الدرامية الأكثر انتشارًا في المنطقة العربية، عمل خيرت مع الوقت على تقديم قوالب موسيقية أخرى مثل موسيقى الباليه والأوبريت، والقصائد السيمفونية وقالب الافتتاحية، وجميعها لاقت نجاحاً وطلباً جماهيرياً وهو ما نلاحظه في الحفلات، يكفي أن تعلن أي جهة عن تنظيم حفل لعمر، لتنفد تذاكر الحفل فوراً.

ودخوله على القوالب الموسيقية الأخرى، جاء أيضاً من خلال تعرفه على راقصة الباليه وأستاذة الرقص الغربي والشرقي الكندية ديانا كالنتي، والتي مثلت كفاتن حمامة نقطة تحول جديدة، عندما طلبت ديانا من خيرت تأليف موسيقى باليه لها، لكنه احتار في وضع عمل دسم كهذا، لا تألفه الموسيقى العربية، حتى وإن كان أقل دسامة من السيمفونيات والكونشرتوات، لتولد موسيقى باليه العرافة والعطور الساحرة.

إيقاع

من المؤكد أن موسيقى عمر، لها طابعها وسمتها وبصمتها، ويتفق النقاد والموسيقيون على أن موسيقى خيرت حسية؛ أي تخاطب الحواس البسيطة كالسمع، والمركبة كالحركة، بالتالي تخاطب الجسد، ومن أهم عوامل ذلك، اعتماده القوي في أغلب مؤلفاته على طابع صوت الآلة الصولو، وهو ما يخاطب السمع، وعلى الإيقاع، وهو ما يخاطب الحركة.

وسبق أن قال عنه الموسيقار المصري الراحل عمار الشريعي، خيرت «صاروخ، انطلق وكأن هدفه الدفع بالموسيقى العربية الحديثة إلى الأمام، من أهم العلامات البارزة في موسيقانا، حامل الأمل، الذي يحمل في قلبه وقلمه أملاً موسيقياً في طريقها إلى العالمية».

عمر خيرت محطة فنية كبيرة، ومشوار من العطاء طويل ممتد، الاسم الذي لن يستطيع أي مؤرخ موسيقي أن يغفل عنه، بل لن يغفل عن وضع اسم عمر كنقطة مفصلية في تاريخ الموسيقى العربية، يمكن التأريخ عندها، والقول الموسيقي قبله وبعده، وكيف طوّر استخدام البيانو في الأعمال العربية، وبطابع أقرب للشاعرية، ليصبح ذلك المؤلف شاعراً، تنساب القصائد/الألحان في عذوبة من بين أنامله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr3p6chs

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"