منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، تغيرت ملامح الساحة العالمية بشكل جذري، وبرزت سلسلة من الأزمات أعادت تشكيل التحالفات، وعمّقت الانقسامات، وتسببت في اضطرابات لا تزال تتردد صداها في جميع أنحاء العالم.
يسلط كتاب، «الحرب في أوكرانيا: الصراع، الاستراتيجية، وعودة العالم المتصدع»، الذي حرره هال براندز، الضوء على هذه الأزمة الجيوسياسية المهمة من خلال مجموعة من المقالات التي كتبها نخبة من المحللين والخبراء.
ظهر هذا الكتاب كنتاج لمؤتمر عُقد في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، تزامناً مع الذكرى الثانية للهجوم الروسي. ويأتي كمحاولة لكتابة التاريخ في الوقت الراهن، رغم أن التعامل مع حرب جارية يشبه التصويب على هدف متحرك كما يقول محرر الكتاب، لأن وجهات النظر حول الأحداث تتغير مع مرور الوقت. ويعلق على ذلك: «لكن إذا كانت كتابة التاريخ في الوقت الفعلي صعبة، فإنها أيضاً ضرورية. كيف يمكن لصناع السياسات والمحللين التفاعل بذكاء مع الأحداث التي تغير العالم أثناء حدوثها وفهمها؟
كيف ستنتهي الحرب في أوكرانيا؟
يقول براندز: «لا نعرف حتى الآن كيف ستنتهي الحرب في أوكرانيا. ما نعرفه بالفعل هو أن هذه الحرب قد غيرت العالم. عندما أرسل فلاديمير بوتين قواته لمهاجمة أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، في ذروة مشروع استمر لعقدين من الزمن للسيطرة على تلك البلاد، لم يقتصر الأمر على إثارة أكبر وأشرس صراع في أوروبا منذ أجيال. بل سرّع أيضاً بروز عصر أكثر تفككاً وتنافساً»، مضيفاً: «أدى هجوم بوتين إلى تكثيف صراعات القوى الكبرى التي بدأت بالفعل في تشكيل القرن الحادي والعشرين. أعاد تشكيل التحالفات، وعمّق الانقسامات العالمية، وأحدث اضطراباً اقتصادياً حول العالم. خلقت الحرب أول أزمة نووية بين القوى الكبرى منذ عقود، ورأينا العقوبات، والضوابط على الصادرات، وأدوات اقتصادية أخرى تستخدم كأسلحة في صراع جيوسياسي. وبهذه الطرق وغيرها، أسهمت الحرب في أوكرانيا في خلق بيئة دولية أكثر استقطاباً وخطورة منذ الحرب الباردة. ستكون نتائجها -أياً كانت تلك النتائج- ذات تأثير عميق في توازن القوى الدولي، والصراع بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، وتوجهات الدول في قارات متعددة، والقواعد التي تحكم الشؤون العالمية».
يرى الكاتب أن ما نطلق عليه غالباً «حرب أوكرانيا» لم تبدأ في فبراير 2022، حتى وإن كان هذا هو الوقت الذي بدأت فيه مرحلتها الأكثر كثافة وكارثية وتأثيراً. تماماً كما كان غزو اليابان لمنشوريا في عام 1931 تمهيداً لغزوها الشامل للصين في عام 1937، بدأت الحرب بين أوكرانيا وروسيا في عام 2014، عندما استولى فلاديمير بوتين على القرم، وتدخل أولاً عبر وكلاء ثم مع القوات النظامية في دونباس. تصاعدت وتيرة هذه الحرب وتراجعت في السنوات اللاحقة، لكنها لم تنتهِ حقاً. ويشير إلى أنه في الواقع، «يعود سعي بوتين للسيطرة على أوكرانيا، سياسياً وجيوسياسياً، إلى ما قبل ذلك بكثير، إلى محاولته الفاشلة للتأثير في انتخابات الرئاسة الأوكرانية في 2004 - 2005. تغيرت أساليب موسكو على مدار العقدين التاليين، لكن هدفها الأساسي لم يتغير أبداً».
ويضيف: وكما هو الحال مع معظم الحروب، كانت لهذه الحرب جذور أعمق. حرب أوكرانيا هي ببساطة الأكبر بين العديد من الحروب التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفييتي؛ سلسلة من الصراعات العنيفة التي شملت بقايا الإمبراطورية السوفيتية منذ انهيارها في عام 1991. قبل عقود من ذلك، في ثلاثينات القرن العشرين، حاول جوزيف ستالين سحق الهوية الأوكرانية وتجويع سكانها. استخدم بوتين نفسه التاريخ الطويل والمعقد للعلاقات الروسية الأوكرانية كسلاح مدعياً أن أوكرانيا لم تكن أبداً «دولة حقيقية»، وليس لها حق في الوجود كدولة مستقلة. بهذا المعنى، فإن الحرب الحالية هي ببساطة المرحلة التالية من صراع طويل الأمد بين أوكرانيا وسلسلة من الإمبراطوريات الروسية - سواء كانت قيصرية أو شيوعية أو بوتينية - التي سعت للسيطرة عليها.
صراع تاريخي يعيد الحرب إلى أوكرانيا
تعد الحرب أيضاً جزءاً من نمط تاريخي أوسع، حيث كانت أوكرانيا في مركز كل صراع عالمي كبير، ساخن أو بارد، في العصر الحديث. هذا ليس مفاجئاً كما قد يبدو. بعد كل شيء، تمتلك أوكرانيا بعضاً من أغنى الأراضي الزراعية على وجه الأرض. لديها جبهة استراتيجية حيوية على البحر الأسود. والأهم من ذلك، تقع عند مفصل أوراسيا، حيث يلتقي «ريملاند» (إطار الأرض) الأوروبي المتقدم اقتصادياً بالمساحات الشاسعة والموارد الوفيرة ب«الهارتلاند» (قلب الأرض) الذي تسيطر عليه روسيا. أي إمبراطورية أوروبية تسعى إلى المجد في الشرق يجب أن تمر عبر أوكرانيا. وأي قوة أوراسية تتوسع في أوروبا يجب أن تفعل الشيء نفسه. لذا فإن مصير أوكرانيا كان مسألة حيوية في كل صراع أوراسي كبير في القرن العشرين: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة. ولا يقل أهمية اليوم في الصراع بين روسيا والغرب.
تبدأ مقالات الكتاب بمعاينة أصول الصراع وتطوره، مسلطة الضوء على الفشل والنجاح في الاستراتيجيات الأمريكية، وتأثير العقوبات في روسيا، ومستقبل الشراكة الروسية الصينية. هذا الاستعراض الشامل يقدم فهماً عميقاً للأحداث التي شكلت هذه الحرب والنتائج المحتملة لها. تتناول المقالات الأبعاد المتعددة للصراع، بما في ذلك التحولات العسكرية والاستراتيجية، والأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية. على سبيل المثال، يناقش مايكل كوفمان التحولات في التكتيكات العسكرية الروسية، بينما يستعرض دانيال درزنر تأثير العقوبات الاقتصادية في النظام الروسي وقدرته على الصمود.
وفي مقالة «الحرب في أوكرانيا والنظام العالمي» التي كتبها هال براندز، نجد استعراض التأثيرات العميقة للحرب في النظام الدولي. يوضح براندز كيف أن هذه الحرب لم تعد مجرد نزاع إقليمي بل أصبحت نقطة تحول في السياسة العالمية. ويقدم ستيفن كوتكين في مقالته «أوكرانيا، روسيا، الصين، والعالم» نظرة شاملة على الديناميات الثلاثية التي تجمع بين هذه الدول وتأثيراتها في النظام العالمي.
في القسم الثالث، يتناول أشلي جي. تيليس في مقالته «الحرب في أوكرانيا والانقسامات العالمية» كيفية تعميق هذه الحرب للانقسامات الدولية. بينما تستعرض أندريا كيندال-تايلور في «نقطة اللاعودة لبوتين» كيف أصبح بوتين محاصراً في خياراته. يقدم بوني لين وبريان هارت في مقالتهما «تسريع التغيرات العميقة غير المرئية في قرن: تقييمات الصين وردودها على غزو روسيا لأوكرانيا» رؤية مفصلة للتغيرات الجيوسياسية. في حين يقدم مارك ليونارد في «الاتحاد الأوروبي كمشروع حرب: خمسة مسارات نحو أوروبا جيوسياسية» تحليلاً لدور الاتحاد الأوروبي المتغير.
هذا الكتاب لا يقدم فقط تحليلاً للأحداث الجارية، بل يستشرف المستقبل وتأثيراته في النظام العالمي، ويمكن القول: إنه يظل مرجعاً مهماً في قراءة واحدة من أهم الأزمات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين. صدر الكتاب عن دار نشر جامعة جونز هوبكنز في 2 إبريل 2024، وهو متاح باللغة الإنجليزية في غلاف ورقي مكون من 324 صفحة.