الاتحاد السوفييتي وتركيا
في فترة ما بين الحربين العالميتين، شهدت العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وتركيا تحولاً غير تقليدي، حيث تعاونا لمواجهة الهيمنة الليبرالية التي سعت القوى الغربية لفرضها على النظام الدولي، اتجه الطرفان إلى تعزيز دور الدولة في الاقتصاد والسياسة، ما أدى إلى شراكة تستند إلى التصنيع وتطوير البنية التحتية، على الرغم من التحديات الداخلية والخارجية التي رافقت تلك الفترة.
في كتاب «ضد النظام الليبرالي: الاتحاد السوفييتي وتركيا والأممية الدولية 1919-1939»، يأخذنا المؤلف في رحلة تاريخية إلى فترة ما بين الحربين العالميتين، حين كانت العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وتركيا تأخذ شكلاً جديداً وغير متوقع في تلك المرحلة المضطربة، يستكشف الكتاب الجوانب المعقدة لهذه العلاقة الناشئة على خلفية مقاومتهما المشتركة للنظام الليبرالي الذي تزعمت صياغته دول الغرب بعد الحرب العالمية الأولى.
يتكون الكتاب بعد المقدمة من ستة فصول وخاتمة، تستعرض المقدمة الخلفية التاريخية لتطور العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وتركيا، وتوضح التحالف ضد النظام الليبرالي العالمي، يناقش الفصل الأول بعنوان «الدبلوماسية الثورية» كيفية تبني كل من الاتحاد السوفييتي وتركيا لدبلوماسية قائمة على الثورات المحلية والإصلاحات الجذرية، ويأتي الفصل الثاني بعنوان «السيادة لأوراسيا ما بعد الإمبريالية» ليحلل التحولات الجذرية في المنطقة الأوراسية بعد انهيار الإمبراطوريات، مع التركيز على تأكيد السيادة الوطنية.
ويستعرض الفصل الثالث «التجارة العادلة» جهود الاتحاد السوفييتي وتركيا في بناء نظام تجاري بديل يتجاوز هيمنة القوى الغربية، ويتناول الفصل الرابع «رأس المال الدولي والمتعاونون المحليون» تحديات الدولتين في التعامل مع الاستثمارات الأجنبية ورأس المال الدولي، ويركز الفصل الخامس «المصنع والتنمية» على بناء المصانع كأداة للتنمية. ويتعمق الفصل السادس «الأممية الدولية» في فكرة «الأممية الدولية» كشبكة تعاون بين الدول التي تعتمد على سياسات وطنية قوية.
السياق التاريخي
في بداية القرن العشرين، شهد العالم تحولات كبرى على الساحة الدولية، خصوصاً بعد انهيار الإمبراطوريات التقليدية مثل الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية، في هذا السياق، بدأت تركيا الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك والاتحاد السوفييتي بقيادة فلاديمير لينين في تشكيل سياساتهما الجديدة بعيداً عن التأثيرات الغربية الليبرالية، التي أصبحت القوة المهيمنة في تلك الفترة، ولكن على الرغم من اختلاف النظامين الأيديولوجيين في تركيا وروسيا السوفيتية، إلا أنهما وجدا قواسم مشتركة في توجهاتهما الرامية لبناء دول قوية قادرة على مواجهة النظام الليبرالي الذي كان يسعى لترسيخ قواعده على المستوى العالمي.
يركز الكتاب على مفهوم «الأممية الدولية»، وهو نموذج للتعاون الدولي قائم على التدخل المباشر للدولة في الاقتصاد والسياسة، بعيداً عن مبادئ النظام الليبرالي التي كانت تشدد على السوق الحرة والحرية الاقتصادية، يتناول المؤلف كيف أن الاتحاد السوفيتي وتركيا وجدا نفسيهما في مواجهة هذا النظام من خلال تعزيز الدور الحكومي في إدارة الاقتصاد وتنظيم العلاقات الدولية، ومع أن النظامين، السوفييتي والكمالي، كانا مختلفين في جوهرهما، حيث كان الأول اشتراكياً يسعى لتطبيق المبادئ الماركسية، بينما كان الثاني قومياً يهدف إلى بناء دولة حديثة قائمة على العلمانية والتحديث، إلا أن التحديات المشتركة والمصالح المتداخلة دفعتهما إلى تشكيل شراكة غير تقليدية.
يظهر الكتاب كيف سعى الطرفان إلى تعزيز التعاون في ما بينهما على أساس تطوير الصناعة والاقتصاد، حيث ساعد الاتحاد السوفييتي تركيا في وضع خططها التنموية وبناء المصانع الكبيرة التي أصبحت رمزاً للتقدم الصناعي التركي في الثلاثينات، ومن أبرز المصانع في تلك الفترة مصنع قيصري، الذي بناه السوفييت، باعتباره أكبر مصنع في الشرق الأدنى في تلك الفترة، ليعكس مدى التعاون الاقتصادي الوثيق بين الطرفين.
دبلوماسية التغيير
يتناول الكتاب أيضاً كيف أن العلاقات بين تركيا والسوفييت امتدت لتشمل الجانب الدبلوماسي والعسكري، كانت تركيا تحت قيادة أتاتورك تبحث عن طرق لبناء دولة حديثة قادرة على الوقوف في وجه التدخلات الغربية، خاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. وفي الوقت نفسه، كان الاتحاد السوفييتي يسعى لترسيخ سلطته وتعزيز نفوذه في مناطق النفوذ العثمانية السابقة، أسهمت هذه المصالح المشتركة في خلق نوع من «الدبلوماسية الثورية»، حيث قام الطرفان بدعم حركات التحرر الوطني وتعزيز الإصلاحات السياسية في الداخل.
على الرغم من أن الشراكة بينهما كانت تعتمد في الأساس على البراغماتية، إلا أنها شهدت بعض التوترات، لا سيما في التعامل مع الفاعلين غير الحكوميين في الخارج، حيث حاول كلا الطرفين تقليص تأثير القوى الخارجية على المنطقة، أحد أبرز مظاهر هذا التعاون كان تطوير نظام تجاري جديد يقوم على التبادل المباشر بين الدولتين، وهو ما أطلق عليه «نظام التوازن الصافي»، والذي أسهم في تعزيز التجارة الثنائية بينهما بعيداً عن هيمنة القوى الغربية. لكن مع مرور الوقت، بدأت التحديات تظهر، فقد واجه الطرفان صعوبات في التعامل مع القوى الدولية الكبرى، التي كانت تحاول الحفاظ على هيمنتها الاقتصادية والسياسية في المنطقة، كذلك ظهرت التباينات الداخلية بين النخب السوفييتية والتركية، حيث كان هناك انقسام حول كيفية الاستفادة من التعاون الاقتصادي مع الغرب.
يركز الكتاب على كيفية تعامل الحكومتين مع هذه التحديات، حيث تبنى السوفييت والأتراك رؤية جديدة تعتمد على التنمية التي تقودها الدولة، وهو ما أصبح نموذجاً للتعاون بين الدولتين، ومع ذلك كانت هناك بعض الاختلافات في التعامل مع القضايا الاقتصادية والسياسية، ففي حين كانت تركيا تسعى إلى تعزيز صناعاتها المحلية من خلال التعاون مع الاتحاد السوفييتي، كانت القيادة السوفييتية تنظر إلى تركيا كدولة زراعية يمكن أن تستفيد من النماذج السوفيتية في التصنيع والتنمية الاقتصادية، ومن هنا كانت الصناعات المشتركة، مثل مصنع قيصري، تلعب دوراً حيوياً في تعزيز التعاون بين الطرفين.
تأثير العلاقات على النظام العالمي
في خاتمة الكتاب، يتناول المؤلف تأثير العلاقات السوفييتية-التركية على النظام العالمي في تلك الفترة، فقد كانت هذه العلاقات جزءاً من التحولات الكبرى التي شهدها العالم في مرحلة ما بين الحربين، حيث كان النظام الليبرالي العالمي يتعرض لتحديات من قبل الدول التي كانت تسعى إلى تحقيق استقلالها السياسي والاقتصادي.
يُظهر الكتاب كيف أن التعاون بين تركيا والاتحاد السوفييتي أسهم في تشكيل رؤية جديدة للنظام الدولي تقوم على رفض الهيمنة الغربية وتعزيز دور الدولة في إدارة الاقتصاد.
بالإضافة إلى ذلك، يُبرز الكتاب كيف أن هذه العلاقات كانت تمهيداً لعلاقات مستقبلية بين الاتحاد السوفييتي ودول أخرى في العالم الثالث، خصوصاً في فترة الحرب الباردة، حيث كانت تركيا تعتبر نموذجاً للدول التي تمكنت من بناء نظام سياسي واقتصادي مستقل عن الهيمنة الغربية.
على العموم، تكتسب دراسة العلاقات السوفييتية-التركية في تلك الفترة أهمية خاصة في السياق السياسي الحالي، حيث تسعى العديد من الدول إلى تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي في مواجهة الهيمنة العالمية، كما تُظهر التحديات التي واجهتها البلدان في بناء نظم بديلة، أن التحالفات غير التقليدية لا تزال وسيلة فعالة للتعامل مع عالم متعدد الأقطاب ومتغير باستمرار، تشكّل هذه الدروس التاريخية رؤية جديدة للعلاقات الدولية في عالمنا اليوم الذي يشهد صعود قوى إقليمية تسعى لإعادة تشكيل النظام العالمي وفق مصالحها الخاصة.