عادي
صدر في الشارقة

«كتاب الرفض»... ملحمة نضال إفريقيا الدائمة

00:05 صباحا
قراءة 5 دقائق
تسيتسي دانغاريمبغا

الشارقة: علاء الدين محمود

توقف الأدب السردي الإفريقي كثيراً عند محطتي الاستعمار والعبودية، وأسهم في وضع الأفكار والأطروحات حول كيفية إنهاء الاستعمار والتي تبدو قضية قائمة تشغل أذهان الكثير من الأدباء الأفارقة الذين قدموا نصوصاً عالية المستوى منذ الجيل المؤسس وحتى الجيل الراهن الذي أضاف بعداً أكثر جمالاً وإشراقاً للسرد في القارة السمراء.
راوية «كتاب الرفض»، للكاتبة الزيمبابوية تسيتسي دانغاريمبغا، الصادر في نسختها العربية عن دار روايات عام 2024، من ضمن الأعمال السردية الإفريقية التي تتناول مرحلة الاستعمار وتأثيره على إنسان إفريقيا بما كان يحمل من تفاصيل مأساوية متعلقة بالعنصرية والظلم والاضطهاد، غير أن دانغاريمبغا تتصدى لهذه المهمة على طريقتها الخاصة، وذلك عبر تأثير ذلك الواقع على النساء بشكل أكثر خصوصية، فالمرأة حينها كانت تقبع داخل سجنين كمحبسي المعري، الأول هو الاستعمار والعنصرية، والثاني هو القيود الاجتماعية الثقيلة المفروضة على النساء، لقد كانت وضعية قاسية جداً وفي ذات الوقت تتطلب نضالاً في اتجاهين، إنهاء الاستعمار والنضال ضده وسياسته، وكذلك تغير نظرة المجتمعات المحلية الإفريقية تجاه المرأة من خلال النضال ضد الهيمنة الذكورية، والعادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت بمثابة سلطة خانقة.
ظروف قاسية
رواية «كتاب الرفض»، هي بمثابة تكملة، أو جزء ثانٍ للعمل السردي السابق لها والمعنون ب«أحوال عصابية»، حيث يتابع القارئ حكاية بطلة القصة تامبو، التي حصلت على مكان في مدرسة داخلية كاثوليكية للفتيات، وبذلك فإن بطلة الرواية هي واحدة من بنات إفريقيات قليلات نجحن في انتزاع حقهن في التعليم، وفي هذا الجزء نتابع نضال تامبو ضد الواقع والظروف الاجتماعية والنظرة الاستعمارية المتعالية، إضافة إلى معاناتها جراء ظروفها الخاصة، حيث مات شقيقها الذي كان تحت رعاية عمها الذي تعهد بتعليمه، وكانت الفتاة تحمل ظناً قاتلاً في قرارة نفسها أنها قد حلت في مكان ذلك الأخ المتوفى الذي كان هو الأجدر بمتابعة تعليمه منها، وكذلك كانت أخت تامبو قد فقدت ساقها جراء لغم أرضي، وفي ذات الوقت لم تكن علاقتها بعمها جيدة، لذلك عملت على تجاوز تلك الظروف عبر السعي نحو تحقيق النجاح الأكاديمي، فلم تكن أسرتها فقط من تضع آمالاً عراضاً عليها، بل المجتمع بأسره باعتبارها واحدة من حفنة من البنات السود اللواتي ولجن إلى تلك المدرسة «القلب المقدس»، التي تعج بالفتيات البيض.
تفاصيل جديدة
في هذه الرواية، فإن المؤلفة لا تستعرض ذات الحكاية التي حملتها رواية «أحوال عصابية»، بتفاصيل جديدة فقط، بل كذلك تتجول في مناطق وأفكار وعوالم أخرى، وتقدم مقترحات جديدة، فهذه الرواية هي ضمن الأعمال التي تحتفي بالمعنى وتنشد أفقاً، حيث تتجول في داخل النص رؤى فكرية وفلسفية وتصورات اجتماعية ووجودية مختلفة، وتحتشد بالأسئلة الحارقة الملتهبة، فالخلفية الأساسية للعمل هي الاستعمار وكيفية التخلص منه وبدء حياة جديدة لشعب زيمبابوي، من أجل تاريخ يصنع بالعرق والدم، ومن أجل تجسيد تلك الفكرة وتمثلها، فإن الكاتبة عملت على صنع حكاية تقارب تلك المعاني من خلال قصة الفتاة تامبو التي تعيش في عالم يزدحم بالتناقضات والأحوال المضطربة نتاج صراعات مختلفة ومتباينة تلقي بظلالها الكثيفة على شخصية هذه الفتاة التي تعيش اغتراباً حقيقياً، ليس فقط بما يتعلق بنضالها من أجل تلقي التعليم، بل وكذلك على مستوى عائلتها، فهي عالقة بين عالمين متناقضين.
وعلى الرغم من استبسال تامبو في نيل المعرفة والتحصيل الأكاديمي وتفوقها وحصولها على أعلى العلامات الدراسية، إلا أن فتاة أخرى تحصل على جائزة التفوق ليس لشيء إلا لأنها كانت بيضاء العرق، ليتابع السرد تلك التفاصيل المؤلمة حول حياة تكافح على أكثر من مستوى، لتجعل منها الكاتبة نموذجاً للمرأة الإفريقية في ذلك الوقت المظلم من تاريخ القارة، وتركز الرواية على ذلك الكدح والسعي الكبير من قبل بطلة الحكاية من أجل تحقيق مكانة مختلفة.
نقرأ في هذا المقطع من الرواية، على لسان بطلة العمل، ما يشير إلى ذلك الطموح الكبير: «كنت سأحفظ كل شيء عن ظهر قلب من أجل امتحانات المستوى العادي، ولم تكن هناك مشكلة. أما الكأس، الكأس المخصصة لأفضل النتائج في امتحانات المستوى العادي، فقد وعدت نفسي بأن أحصل عليها، وأن اسمي سوف يُنقش عليها ليراه الجميع إلى الأبد: تامبودزاي سياجوكي، وسوف يعرف الناس من أنا، شخص يستحق التقدير والاحترام، وليس وعاء للاحتقار مثل البستاني والخادمات والطهاة وغيرهم».
شرارة الغضب
لقد أرادت المؤلفة أن تصنع بطلة من طراز خاص ومختلف، فتاة تواجه كل الظروف القاسية والصعبة على المستويين الخاص والعام، وتعاني الظلم الاجتماعي والتفرقة العنصرية والاستبداد وغياب العدالة الاجتماعية، حيث تخوض البطلة معاركها تلك باقتدار، تضعف حيناً وتتراجع، لكنها سرعان ما تنهض وتقوم بتجميع قواها من أجل مواجهة جديدة، فهي تتمتع بالعناد والصرامة الكافية للتغلب على أي ظرف، وذلك ما عملت عليه المؤلفة، أن تصنع بطلاً «سوبر» من أجل المهمة الكبرى وهي مواجهة الاستعمار والتخلص منه عبر الثورة التي تتطلب أبطالاً خارقين، فكان أن ولّدت كل تلك الظروف في نفس تامبو شرارة غضب عظيم أعانها في اللحظة المرتقبة.
العمل يعبر بالفعل عن ملحمة إفريقية بتفاصيل جديدة، لا تكتفي فقط باستعادة الماضي، بل تنشد مستقبل القارة من خلال الدروس والعبر، فحمولة التمرد داخل هذه الرواية ليست خاصة بالفضاء الزمني الذي دارت فيه الأحداث، بل كذلك تشمل اللحظة الراهنة التي تبحث فيها القارة عن أفق جديد ومختلف من أجل تحقيق مكانة خاصة بها بعيداً عن كل أشكال التبعية.
عتبة نصية
عنوان الرواية «كتاب الرفض»، جاء بمثابة عتبة نصية شديدة الأهمية وكبيرة الدلالة، فهو يحيل إلى إنكار الواقع والتمرد عليه بكل السبل، كما يشير إلى مشاعر متعلقة بذلك وهي مترتبة على سرقة الأحلام وقتل الطموح، وكل ما من شأنه أن يحول دون تحقيق المرء لأهدافه، فالرواية حملت ثيمة الصراع بشكل ملحمي يقترب من عالم المأساة، ويحمل الكثير من التفاصيل غير المرئية ويقدم إضاءات كاشفة عن تلك الحقبة الزمنية المظلمة في تاريخ إفريقيا من خلال تتابع وقائع الحياة اليومية بكل ما تحمل من مرارة ووجع وألم.
أساليب
على الرغم من أجواء وحمولات السياسة الثقيلة في العمل السردي، إضافة إلى التفاصيل المأساوية المخيمة في كل منعطفاته ومحطاته، إلا أن الكاتبة لم تلجأ إلى الصوت الزاعق، فقد عملت على تمرير عوالم الرواية القاتمة عبر توظيف العديد من التقنيات على رأسها اللغة التي استطاعت عبرها أن تصنع العديد من الصور اللافتة والمشاهد المثيرة بما يجعل المتلقي في حالة من الترقب والشغف في متابعة التفاصيل، وكذلك فإن لدى دانغاريمبغا مقدرة استثنائية على الوصف القوي الذي يكشف الأبعاد الإنسانية والمشاعر المتباينة، وهو ما قد يلاحظه القارئ عبر تلك الحوارات بين أبطال الحكاية، وفي كثير من الحالات قامت المؤلفة بتوظيف تقنية «الفلاش باك» من أجل استعادة الذكريات وصور الماضي بطريقة مميزة.

اقتباسات
- «واصلت التخطيط لحياتي بينما كانت الحياة تخطط للتمرد».
- «ثمة مجرد غضب روح شرسة تجاه تلك القيود الدائمة».
- «هل يستطيع أحد أن يتحمل شخصاً يقتل الناس ويغني عن تحطيم رؤوسهم؟»
- «عندما يكون الناس لطفاء معك في بعض الأحيان ربما تنسى همومك».
- «امتلكت مخالب يائسة لروح صغيرة محاصرة».
- «ما أردته هو الهرب، لكن القمر كان بعيداً جداً».

دار روايات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"