الشارقة: علاء الدين محمود
يرى كُثر أن لا بديل للقراءة بطريقتها التقليدية، أي التي تعتمد على الكتاب الورقي أو حتى الإلكتروني الذي يعتمد على وجود اللغة وحاسة البصر في صنع علاقة مع الأحرف كرموز تحيل إلى دلالات ومعان، غير أن هذا الافتراض يبدو أنه في طريقه لأن يكون موضع شك، حيث صنع التطور التكنولوجي الكبير في وسائل الاتصالات والمعلوماتية والرقمية، أساليب جديدة لنهل المعارف صوتية ومرئية وغير ذلك، بحيث يتم خلق وسيلة جديدة ومختلفة ربما تحل تدريجياً مكان القراءة بصورتها القديمة المتعارف عليها والتي رسخت في الأذهان، وعلى الرغم من أن هذه الأدوات الجديدة تنتشر عبر التطبيقات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، إلا أنها حتى هذه اللحظة لم تصبح بشكل مؤكد بديلة للقديم الذي لا يزال يقاوم بما يمتلك من أدوات وإمكانيات، فربما كانت اللحظة الجديدة عابرة وغير جديرة بإثبات نفسها كبديل.
هناك من يرى، مدافعاً عن القراءة القديمة، أن الأدوات الجديدة سواء المرئية أو المسموعة، من شأنها أن تحطم عملية القراءة نفسها والتي تبرز بوصفها ليست مجرد وسيلة لنهل المعارف واكتسابها، بل غاية في ذاتها، حيث إن القراءة هي نقيض للتلقي، تجري خلالها الكثير من العمليات الذهنية والفكرية، فالدماغ، أثناء الاطلاع، يعمل على معالجة الكلمات والرموز التي تمر بالعينين، ما يستدعي تفعيل مناطق مختلفة من الدماغ، حيث يكون الذهن في حالة نشاط مستمر، بينما تنكمش هذه العملية بواسطة الوسائل والأدوات الأخرى في حالة القراءة المسموعة أو الصوتية على سبيل المثال، إذ يتحول العقل حينها إلى حالة التلقي بدلاً من المشاركة الذهنية الفاعلة.
أدوات
الكتاب الصوتي أو المسموع هو واحد من الأدوات الجديدة للقراءة، حيث بات ينتشر بصورة واسعة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات متخصصة تعرض مجاناً أو عبر الشراء في المتاجر الإلكترونية، حيث يتم إنزالها وتثبيتها في الهاتف المحمول، مما يشير إلى سهولة استخداماتها مقارنة بالكتاب الورقي أو حتى الإلكتروني الذي يحتاج إلى حيز مكاني وزمن، وذلك الواقع أدى إلى ذلك الانتشار الكبير للتطبيقات التي توفر الكتاب الصوتي الذي يعتمد على حاسة السمع، ومن هذه النقطة، فإن دخول تلك الوسيلة المتمثلة في المؤلفات المسموعة إلى مجال القراءة، قد نتجت عنه ولادة شكل جديد من الاطلاع بواسطة الأذن بدلاً من العين، فيما يرى البعض أن تلك الآلية ليست جديدة تماماً، فهي أشبه بالراديو أو المذياع، والذي يعد وسيلة بدائية مقارنة بالانفجار التقني الكبير الذي يشهده العالم في هذا العصر، ورأوا أن بعض الإذاعات العربية كانت تخصص برامج لقراءة الكتب الروائية، وبذلك فإن الأذن ليست أداة غريبة في عملية تعاطي المعرفة، ومن خلال هذا الموقف، فإن الذين يدافعون عن الكتاب التقليدي ووسيلة القراءة القديمة يدحضون ما يصفونه بفرية التطور والتقنية الحديثة التي تحتم وجود أدوات مختلفة للقراءة ويدفعون بأن الكتاب الورقي تحديداً لا يزال هو المفضل لعشاق الاطلاع، كما أن المؤلفات الإلكترونية كذلك تقرأ بواسطة ذات الطريقة القديمة التي تعتمد على العين والفعل الذهني الذي تجري فيه عملية الجهد في تفكيك الرموز «الحروف والكلمات»، بل ويشيرون إلى أن هناك عوامل لحظية، غير سرعة العصر، هي التي تحكمت في صعود الكتاب المسموع، على رأسها فترة تفشي مرض كورونا.
سمات
وعلى الرغم من كل تلك الدفوعات، التي تبدو معقولة، من قبل المنحازين للطريقة التقليدية في القراءة، إلا أن الكتاب الصوتي كذلك له مميزاته وسماته، ولعل من أبرزها مقدرة المؤلفات المسموعة على تحسين مهارات النطق والمحادثة، بما ذلك تقنيات من الطريقة الصحيحة في التحدث، ونبرة الصوت، وكيفية الانتباه لمواضع التوقف والتشديد، وهي أمور مهمة في تعلم وتحسين اللغة، وكذلك فإن المؤلفات الصوتية لا تتطلب تفرغاً كاملاً حيث بإمكان المرء الاستماع للكتاب في أي وقت وحتى أثناء العمل أو أداء أي من الواجبات، كما أنه ينمي الخيال ويساعد على إزالة التوتر والقلق والحفاظ على الهدوء والصحة النفسية بما ينعكس على الإنسان، لذلك فإن الكثيرين يعتقدون أن المهم هو القراءة بأي الوسائل سواء بواسطة الطريقة القديمة والتي تتيحها التكنولوجيا الحديثة، وبالتالي فمن الممكن اعتبار أن المؤلفات والكتب والإصدارات الصوتية تساعد على عملية القراءة ونيل المعرفة، وأن من الخطأ محاربة مثل تلك الأدوات التي قد تستمر أو ربما تتراجع.
اجتياح
صارت المؤلفات والكتب المسموعة أو الصوتية متاحة عبر مواقع ووسائل التواصل المختلفة، وشيئا فشيئا أصبح لها وجود مستقل عبر التطبيقات المتاحة بشكل كبير في المتاجر الإلكترونية المختلفة، حيث يتم توظيف أشخاص، نساء أو رجال، يمتلكون أصواتاً جميلة ومقدرة على إبراز مخارج الحروف في قراءة المؤلفات سواء كانت أدبية روائية أو شعرية أو شذرات أو غير ذلك، وفي بعض الأحيان تكون القراءة جماعية من قبل عدد من الأشخاص من أجل تجسيد الشخصيات داخل الكتاب والأصوات المتعددة وكذلك الحالات المتنوعة، مع تغيير في إيقاع ونبرات الصوت في كل مرة بطريقة تخدم الكتاب المعين وما يحمل من سرد أو نصوص شعرية، إذ إن هذه الوسيلة «الكتاب المسموع»، اجتاحت الأسواق الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير وباتت تلقى القبول من فئات كبيرة من المجتمعات المختلفة.
تطبيقات
وبات هناك العديد من التطبيقات بعينها توفر منتجات متميزة من الإصدارات المسموعة بتقنيات عالية، فأصبحت هي قبلة عشاق ذلك النوع من الكتب سواء كانت أجنبية أو عربية، وربما من أشهر تلك التطبيقات «أوديو أبل»، وهو رائد في هذا المجال إذ يضم أكثر من 400 ألف كتاب منوع، ويحتل المركز الأول لفئة الكتب في متجر “آب ستور”، بتقييم عالٍ، نسبة لميزاته العديدة وجودته الصوتية، وكذلك هناك تطبيق «كوبو بوكس»، وله مجموعة مميزة من الخدمات مثل البودكاست وهي منصة تقوم فكرتها على مساعدة الأشخاص على القراءة وترغيبهم فيها، حيث يشتمل على مكتبة تضم أكثر من 140 كتاباً، ومن أهم مميزاتها أن بإمكان المستمع، وهو القارئ في هذه الحالة، التحكم في سرعة الملفات الصوتية، ويأتي كذلك ضمن أفضل التطبيقات «هوبلا»، والذي يمتلك إمكانيات تقنية ضخمة وتضم مكتبته آلاف الكتب، ويلقى إقبالاً كبيراً نسبة للمزايا المتنوعة التي ينفرد بها، وكذلك هناك تطبيق «آي بوكس»، وهو واسع الانتشار نسبة لتقنياته المتطورة.
انتشار
وهناك العديد من التطبيقات العربية التي انتشرت بصورة واسعة ووجدت إقبالاً من الكثيرين، ويبرز بقوة تطبيق «ضاد»، والذي يعد من أوائل المنصات العربية التي عملت على تحويل الكتب الورقية إلى تطبيقات وملفات صوتية، ويحوي التطبيق أسعاراً مناسبة للكتب التي يصل عددها إلى أكثر من 100 ألف كتاب، لجميع الفئات العمرية، ويهدف إلى تشجيع القراءة في الوطن العربي ويتيح الفرصة للمكفوفين، وهو يتوفر حالياً لمستخدمي أجهزة أبل، أما تطبيق «اقرأ لي»، فهو صاحب قاعدة عريضة من القراء المستمعين، وهو منصة صوتية وبود كاست، يوفر ملايين الكتب، ولعل من أبرز مميزاته إمكان تحميل المؤلفات منه حتى دون الحاجة إلى الاتصال بالإنترنت، ويشتمل، بصورة خاصة، على العديد من الأعمال الروائية في مجالات الرعب والجريمة والإثارة والغموض والخيال العلمي والتاريخ والأعمال الأدبية والشعر والسيرة الذاتية ومؤلفات الأطفال، وكذلك كتب التنمية الذاتية وتطوير النفس، ويتمتع بسهولة التصفح وضبط سرعة الصوت حسب الرغبة، وقائمة بأسماء الإصدارات، وكذلك هناك تطبيق «اسمع لي»، ويملك أيضاً مميزات واسعة ويحظى بإقبال كبير، وهناك عدد من التطبيقات الصوتية الأخرى.
مواقف متباينة
بعض المثقفين الذين تحدثوا إلى «الخليج»، تناولوا ظاهرة الكتاب الصوتية، حيث أجمعوا على أهمية التكنولوجيا الحديثة في حياة البشر، وكذلك القراءة بمختلف الوسائل، فالمعرفة هي ما يسعى إليه الإنسان مهما تعدت الأدوات، لكنهم في ذات الوقت أكدوا على أهمية المؤلفات والإصدارات الورقية والتي يتم الاطلاع عليها بواسطة العين.

«أنا منحاز للكتاب الورقي والطريقة التقليدية في القراءة»، هكذا تحدث القاص إبراهيم مبارك في سياق تناوله لظاهرة الكتب الصوتية، وعلى الرغم من ذلك الانحياز إلا أن مبارك يجد أن هناك العديد من الفوائد المرتبطة بالتقنيات الحديثة ومن ضمنها الإصدارات المسموعة.
يؤكد مبارك على أهمية التنوع والتعدد في وسائل نيل المعارف والقراءة نفسها، وذلك لأن المهم هو الغاية من الاطلاع، التثقيف والمعرفة وغير ذلك، بالتالي فإن تنوع الوسائل يصب في مصلحة الهدف النهائي، والآن فإن الكتب الصوتية تجد إقبالاً من قبل أجيال الشباب بشكل خاص، أكثر من الأجيال السابقة، لأن هذه الفئة تمتلك القدرة على إنجاز أكثر من شيء في ذات الوقت مثل قيادة السيارة والاستماع إلى الكتاب الصوتي وغير ذلك، وهو أمر قد لا يتمكن منه كثير ممن هم في غير المراحل العمرية الشابة، أو الذين اعتادوا المؤلفات الورقية.
ولفت مبارك إلى أن الكتاب الورقي، بالنسبة له، هو الطريقة الصحيحة والمثلى للقراءة والاطلاع وتحصيل المعرفة، ولا ينافسه في ذلك حتى الكتاب المطبوع الإلكتروني، موضحاً أن علاقته بالشاشة ضعيفة، كما أن الإصدار الورقي يحتاج إلى عزلة جميلة ومجيدة، يحتاج الذهن فيها إلى صفاء من أجل عملية الهضم والتعمق في العوالم التي يحتويها الكتاب، بينما تغيب هذه العملية الذهنية المهمة في حال الكتب الصوتية التي تجعل من القارئ متلقياً.
ويشير مبارك إلى أن الكتب المسموعة قد تصبح كذلك عاملاً مساعداً في تشجيع القراءة التقليدية، ذلك لأنها من الممكن أن تروج للمؤلفات وبالتالي يسعى المتلقي إلى قراءتها بعد أن استمع إليها، وفي هذه الحالة فستصبح القراءة الصوتية بمثابة عامل جذب نحو المعرفة، وكسب جمهور جديد للاطلاع، لأن العديد من الذين كانوا يستمعون للكتب الصوتية كانوا في الغالب يمارسون فعل التسلية، إلا أنهم وجدوا أنفسهم منجذبين نحو عالم الكتب التي تقرأ بواسطة العين.
وشدد مبارك على أن المؤلفات الصوتية لن تحل محل المقروءة بالعين، على الأقل في المستقبل القريب، وذلك لأن الاطلاع بطريقته القديمة يتطلب قدراً كبيراً من التركيز والعمق، وذلك ما تتطلبه العديد من المعارف، حيث لا يمكن فهم المؤلفات الفلسفية، على سبيل المثال، عن طريق الاستماع، وكذلك الحال مع العلوم، حيث إنها تتطلب حالة من التأمل العميق والمتابعة التي لا تتحقق إلا عبر القراءة بشكلها القديم المعهود، وحتى الرواية أو القصة، فإنها في حالة سردها صوتياً تتحول إلى مجرد حكاية.
صعوبات

أما الكاتبة الروائية وفاء العميمي، فقد ذكرت أن الكتاب الصوتي يعتبر أحد توابع ثورة التكنولوجيا والاتصالات في هذه الألفية وهو وسيلة ساهمت في وصول المؤلفات إلى فئات كانت تجد صعوبة في التعامل مع الإصدارات الورقية، مثل بعض ذوي الاحتياجات الخاصة من «أصحاب الهمم»، إذ إن الكتاب الصوتي فتح لهم آفاقاً جديدة في عالم العلم والمعرفة.
وأوضحت أن الكتاب الصوتي كان حلاً مفيداً لمن لا يتمكن من الحصول على النسخة الورقية من الكتاب أو لا يميل للقراءة. هذا الواقع له دور كبير في دعم المؤلف الورقي وزيادة انتشاره بطرائق حديثة لم تكن متوفرة قبل خمس وعشرين عاماً، بالتالي فإن هذه الوسائط المسموعة تصب في كونها من عوامل تشجيع الاطلاع والقراءة.
وأكدت العميمي أن الكتاب الورقي، أو القراءة بصورتها القديمة لا تزال تحتفظ بمكانتها، والدليل هو رواج المؤلفات المطبوعة والورقية حتى يومنا هذا، مما يشير إلى أن القراءة التقليدية مهيمنة رغم انتشار هذه الأساليب الجديدة.
جاذبية

بينما ذكرت الشاعرة والمترجمة الهنوف محمد، أن طبيعة العصر الذي يتسم بالإيقاع السريع جعلت مثل هذه الكتب والتطبيقات الصوتية جاذبة، حيث بالإمكان الاستماع إليها في كل وقت وأي مكان، كما أن لها جاذبيتها بالنسبة للبشر فهي تذكرهم بتكوينهم المعرفي الأول والمتمثل في الحكايات والقصص المروية بواسطة الأب والجدة وغير ذلك، مما يخلق نوعاً من العلاقة الحميمية مع تلك الوسائط، فهي ليست حديثة تماماً في مواضيعها «القصة المسموعة»، لكنها متطورة من حيث الوسائل والأدوات.
وأشارت الهنوف إلى أن البعض قد يلجأ إلى الكتاب الصوتي في حالات كثيرة مثل الانشغال أو في لحظات السفر، أو التنقل بواسطة السيارة، فهي على كل حال تجعل الإنسان لصيقاً بالمعرفة، كما أن بعض الناس ليست لديهم علاقة بالقراءة التقليدية لأسباب مختلفة منها الأميّة، أو لمشاكل في النظر.
إفرازات

من جانبه، فإن الكاتب والناشر جمال الشحي يرى أن جميع إفرازات التكنولوجيا الحديثة تسهم في عملية القراءة، حيث يعد الكتاب الصوتي من أكبر روافد الاطلاع في الوقت الحالي، وقدم الكثير من الأبعاد في عملية المعرفة وخدمات جليلة خاصة ل«أصحاب الهمم»، وبذلك فإن التكنولوجيا تنهض بدور كبير في عملية تسهيل القراءة.
ولفت الشحي إلى أن القراءة التقليدية قائمة ومحافظة على دورها، فالكتاب الرقمي لم يطغ على المؤلف الورقي ولم يأخذ مكانته، وكذلك الكتاب الصوتي، فكل تلك أدوات ووسائل باتت مهمة في عملية المعرفة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، حيث أصبح في مقدور المتلقي أن يطلب من برامج الذكاء الاصطناعي أن تلخص له كتاباً يقرؤه بالأسلوب التقليدي أو صوتياً.
وذكر الشحي أنه ومن خلال عمله في مجال النشر، فهو يؤكد على أن الطريقة التقليدية في القراءة لا تزال هي المهيمنة، ويتضح ذلك من خلال أن الكتاب الورقي يحقق مبيعات كبيرة، ويجد الإقبال الواسع من مختلف الفئات العمرية.
كفاءة

من جانبه ذكر د. محمد حمدان بن جَرْش السويدي، أن الكتب الصوتية أصبحت واحدة من أبرز الأدوات الحديثة التي غيّرت طريقة تلقي المعرفة، خاصة مع تزايد الانشغالات اليومية والحاجة إلى استغلال الوقت بكفاءة، فهي تُمكّن المستمع من الاستفادة من المحتوى المكتوب أثناء أداء مهام أخرى، مما يجعلها خياراً مثالياً لمن يجدون صعوبة في تخصيص وقت للقراءة التقليدية، بالإضافة إلى ذلك، تُعد هذه الكتب حلًا حيوياً للأشخاص الذين يعانون إعاقات بصرية أو صعوبات في القراءة، حيث تفتح لهم أبواباً واسعة للوصول إلى المعرفة التي كانت مقيدة بالوسائل البصرية.
ويلفت ابن جرش إلى أن السؤال عما إذا كانت الكتب الصوتية قادرة على استبدال القراءة التقليدية يظل مفتوحاً، فالقراءة البصرية تعتمد على تفاعل مختلف مع النص، يتضمن تحليلاً بصرياً مباشراً، وإمكانية التوقف عند فقرات معينة، أو الرجوع إليها، أو حتى تدوين الملاحظات، مما يُعزز الفهم العميق وخصوصاً في النصوص المعقدة كالكتب العلمية أو الفلسفية، في المقابل، يعتمد الاستماع على التركيز السمعي، الذي قد يتأثر بسرعة القارئ أو المشتتات الخارجية، رغم أنه يقدم تجربة غنية من خلال نبرات الصوت المعبرة التي تُضفي حيوية على السرد، خاصة في الأعمال القصصية أو السير الذاتية.
ويخلص ابن جرش إلى أنه لا يمكن اعتبار إحدى الطريقتين بديلاً تاماً عن الأخرى، فلكل منهما سياقه الأنسب، فبينما تتفوق القراءة التقليدية في تعميق التفكير النقدي والتحليل، تبرز الكتب الصوتية في جعل المعرفة متاحة في أي وقت وحين، مع إثراء التجربة عبر البعد العاطفي الذي يضيفه الصوت، كما أن لكل منهما جمالياته الخاصة، فالأولى ترتبط بالإحساس الملموس بالكتاب وتنظيم الأفكار بصرياً، بينما تحوّل الثانية النص إلى حكاية حية تلامس الخيال.

«الصوتي».. مهارات السرد
مع تطور أدوات ووسائل التكنولوجيا الحديثة، باتت تطبيقات القراءة أكثر يسراً من ذي قبل، ولعل من فوائد هذا التطور، ما بات يعرف ب«الكتاب الصوتي» الذي بات وسيلة فعالة من وسائل المعرفة لدى القراء، وخاصة الأطفال الصغار، حيث يعرف عن هذه الشريحة الكبيرة شغفها بسماع سرد القصص، بما توفره من مادة تربوية ومعرفية تحفز عندهم ملكات التفكير والإبداع والتعلم.
جيك هاريس، وهو كبير منتجي الصوت، وقائد فرقة يوتو ديلي البريطانية، يقر بفوائد الكتب الصوتية، خاصة على صغار السن، حيث يؤكد ضرورة أن يكون هناك معلمون ملهمون في المراحل الابتدائية لصفوف الصغار، ويراهن على ضرورة الدفع لتحفيز جيل المستقبل بجذب انتباههم إلى فاعلية الكتاب الصوتي طوال مدة فترة الاستماع، وهو يقول: «إذا لم يستطع المعلمون تحقيق هذه النتيجة، فقد خسر الجميع..».
تكمن مهارة هذا التحدي، في إبعاد الملل والشرود عند الأطفال، حيث يتضاءل انتباههم، ويبدأ الطلاب في مغادرة مقاعدهم.
يقول هاريس: «عندما كنت أعمل كمعلم، كنت أعلم دائماً أن لديّ مجموعة هائلة من الأسلحة السرية، جاهزة للاستخدام في أي لحظة - القصص. قصة جيدة يقرؤها معلمٌ مُلهِمٌ تُعيد تركيزَ الطلاب حتى في أكثر الفصول الدراسية صخباً».
وهو يضيف: «يُحب الأطفال، وحتى الكبار، أن تُقرأ لهم القصص - إنها غريزةٌ بشريةٌ قديمةٌ، فطريةٌ فينا جميعاً، أن نستمع إلى حكايات الآخرين. وهذا جزء لا يتجزأ من تلك الغريزة البشرية القديمة، في أن نُورِّث القصص للأجيال القادمة. هذه هي قوة سرد القصص، هذه هي قوة الصوت».
فوائد
وهو يعدد فوائد الاستماع إلى الكتب الصوتية ويقول: «يميل الكثيرون إلى افتراض أن الاستماع إلى الكتب الصوتية ليس بفائدة القراءة. ومع ذلك، فإن فوائد الكتب الصوتية واسعة، بما في ذلك تحسيناتٌ هائلةٌ في فهم الأطفال ونطقهم ومفرداتهم، إضافة إلى تحسين دقة وطلاقة مهارات القراءة لديهم. وإن لم تُصدِّقوني، فربما تُصدِّقون الباحثين في جامعة كاليفورنيا الذين يقولون إن «القصص تُحفِّز نفس المجالات المعرفية والعاطفية، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة».
يرى كُثر أن لا بديل للقراءة بطريقتها التقليدية، أي التي تعتمد على الكتاب الورقي أو حتى الإلكتروني الذي يعتمد على وجود اللغة وحاسة البصر في صنع علاقة مع الأحرف كرموز تحيل إلى دلالات ومعان، غير أن هذا الافتراض يبدو أنه في طريقه لأن يكون موضع شك، حيث صنع التطور التكنولوجي الكبير في وسائل الاتصالات والمعلوماتية والرقمية، أساليب جديدة لنهل المعارف صوتية ومرئية وغير ذلك، بحيث يتم خلق وسيلة جديدة ومختلفة ربما تحل تدريجياً مكان القراءة بصورتها القديمة المتعارف عليها والتي رسخت في الأذهان، وعلى الرغم من أن هذه الأدوات الجديدة تنتشر عبر التطبيقات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، إلا أنها حتى هذه اللحظة لم تصبح بشكل مؤكد بديلة للقديم الذي لا يزال يقاوم بما يمتلك من أدوات وإمكانيات، فربما كانت اللحظة الجديدة عابرة وغير جديرة بإثبات نفسها كبديل.
المطالعة في حضرة «البود كاست»
ترتبط تطبيقات وبرامج الكتب والمعارف المسموعة كذلك ببرنامج وتقنية البودكاست، وهو يعني البث الصوتي، أو البث الجيبي، أو التدوين الصوتي.
والواقع أن البودكاست وتقنياته لم تعد ترتبط فقط بالمواد المسموعة من مؤلفات وكتب وغير ذلك، بل توسعت فكرته بحيث بات يشتمل على برامج متعددة الوظائف منها الحوارية بمختلف أنواعها، وفي مجال العلوم والرياضة والصحة وتطوير الذات والتعليم والثقافة والأخبار والإعلام ومختلف تلك الوظائف، بحيث صار يتمتع بسلطة كبيرة، ويستخدم بشكل أكثر اتساعاً من قبل المجموعات المعارضة في كثير من الدول، ولئن كانت بداية هذا البودكاست بعيداً عن الإعلام الرسمي، فإن العديد من القنوات المعروفة والشهيرة صارت تنشئ قسماً خاصاً به، لكونه قد أصبح من ضمن وسائل وتقنيات الإعلام الأكثر شعبية خاصة لدى فئات الشباب، ولعل أكثر البرامج متابعة هي التي تعنى بقضايا الأجيال الجديدة والتي يقوم بالإشراف عليها شباب يعكسون الكثير من الأفكار المعاصرة، ولكن بشكل عام فإن مواضيع البودكاست تختلف وتتنوع وذلك بحسب اختلاف وتعدد اهتمامات المتابعين، فهناك منها ما يعنى بالسياسة أو الدين وأخرى بأخبار التقنية، وغيرها لتعلم لغة جديدة، أو للتحليل الاقتصادي، وهناك بود كاست يتابع ألعاب الكمبيوتر، الطب، أو يهتم بالتصوير والفنون المختلفة، أو الأفلام وجديد الكتب، أو الأدب والرحلات حول العالم، أو حتى مذكرات شخصية، أو فقط للتسلية وتبادل النكت أو غيرها، وفي هذا السياق فإن هناك الكثير من برامج البودكاست المخصصة بصورة كبيرة لمتابعة أحدث الإصدارات والمؤلفات وتلخيصها.
ولعل بعض الناس قد يختلط عليهم الأمر كثيراً بين الكتاب الصوتي والبودكاست، بحيث يظنون أنهما شيء واحد، وبالطبع فإن ذلك غير صحيح، ولئن كان كل من الاثنين يصل إلى المتلقي عبر الأذن، أي حاسة السمع، فإن ذلك الأمر فيه الكثير من الاختلافات والتباينات، حيث إن البودكاست هو عبارة عن مقاطع مقسمة إلى حلقات متتالية تصدر وفق جدول زمني معين، وخارطة محددة، فقد يكون يومياً أو أسبوعياً، أو ربما شهرياً، ويتناول قضايا متنوعة ومتعددة، وتكون مقاطعه قصيرة، وقد أصبح البودكاست مرئياً الآن أكثر منه مسموعاً، بينما الكتاب يعبر عن فكرة برنامج صوتي محض، من أجل إيصال محتوى الإصدار المعين صوتياً، وليس له وقت معين في عملية البث، وفي الإمكان القول إن الكتب المسموعة صارت تحتل جزءاً من حيز واهتمام البودكاست الذي أضاف إليها التعبيرات المرئية.
