د. علي محمد فخرو
إذا كانت إمكانيات قيام مشاريع عربية مشتركة كثيرة ومتنوعة في حقل الاقتصاد، كما بيّنا في مقال سابق، فإن الأمر ينطبق بصورة أكبر في حقل العلوم والتكنولوجيا. هنا توجد إمكانيات هائلة وواعدة ومتنامية.
سأسرد مثالين تحققا في الواقع العربي، أحدهما على المستوى القومي الشامل، والثاني على مستوى إقليم الخليج العربي.
ففي منتصف السبعينات من القرن الماضي كان مجلس وزراء الصحة العرب ومجلس وزراء الصحة في الخليج العربي يجتمعون دورياً وينسقون نشاطات وزاراتهم ومواقفهم الدولية. وكانت إحدى الشكاوي هي هجرة العقول الطبية التخصصية العربية إلى خارج الوطن العربي عندما يذهبون إلى الخارج للتدريب أو لأخذ شهادات التخصصات العليا.
عند ذاك تقدمت البحرين إلى وزراء الخليج بمذكرة تقترح فيها تشكيل المجلس العربي للاختصاصات الطبية، والاعتراف به كجهة تدريب للاختصاصات الطبية العليا، وكسلطة تمنح شهادات تلك الاختصاصات بعد إجراء امتحانات تشرف عليها.
ولقد أقر الوزراء الاقتراح، وتمّ رفعه إلى مجلس وزراء الصحة العرب لتبنّيه هو الآخر. وخلال بضعة أشهر تمت كل المداولات وولادة المجلس العربي للاختصاصات الطبية، الذي بدأ عمله بإعطاء تدريب وامتحانات وشهادات في أربعة تخصصات، ازدادت تدريجياً حتى وصلت إلى نحو خمسين تخصصاً. ولقد تخرّج خلال النصف قرن ذاك عشرات الألوف من الأطباء الأخصائيين العرب، وعملوا في طول وعرض الوطن العربي كله.
وما كان لذلك المشروع القومي أن ينجح ويتغلب على شكوك البعض تجاه نجاحه لولا مجموعة من وزراء الصحة المتحّمسين الملتزمين الذين وقفوا مع المشروع بكامل طاقتهم، ولولا حماس الجسم الطبي العربي للدخول في تلك التجربة المشتركة، ولولا المشاعر المجتمعية العربية العامة التي كانت تشجع شعارات الوحدة العربية والعمل العربي المشترك في كل مجال، ودون أي استثناء.
اليوم يقف هذا المجلس شامخاً ودالاًّ على أنه عندما تتوفر الإرادة ويتوفر العرب الرسميون وغير الرسميين الملتزمون بالمصير العربي الواحد فإن الإنجازات العربية ممكنة وكثيرة.
المثال الثاني يتمثل في قرار وزراء التربية في الخليج العربي بإنشاء جامعة مشتركة تتخصص في مجالات الطب الحديثة، وتمارس أحدث الوسائل التعليمية من جهة، وتضيف تعليم تخصصات في مجالات حديثة ومعاصرة من مثل علوم البحار والفضاء والجينات والتكنولوجيا التواصلية والإدارة وغيرها من جهة أخرى. كان ذلك في بداية الثمانينات وكان القرار أن تكون في البحرين مقراً.
مرة أخرى وجد المشككون والمثبطون، ووجدت العقبات المالية وضعف الالتزامات عند البعض، لكن مجالس أمناء جامعة الخليج العربي المتعاقبة وإداراتها النشطة ووجود ثلّة من المؤمنين بالأهمية القصوى للعمل العربي المشترك بشتى صوره وفي أي مستوى أدت إلى نجاح الجامعة وتوسعها عبر الخمسين سنة الماضية.
وكمجلس التخصصات الطبية العربي تقف جامعة الخليج العربي شامخة ومؤكدة أن العمل العربي المشترك ممكن عندما يتوفر الالتزام وتقوى الإرادات.
ولقد استطاعت الأغلبية الساحقة من مؤسسات المجتمعات العربية المدنية القُطرية أن تنأى بنفسها عن المماحكات والصراعات الرسمية العربية، وتكوين عشرات الاتحادات العربية المشتركة العاملة على مستوى الوطن العربي كله بتنسيق وتضامن.
وكما جاءت مثل تلك المبادرات من قبل وزراء تحلّوا بالشجاعة وتحّمل المسؤولية باستقلال معقول ضمن عملهم في حكومات رسمية، فإن المطلوب الآن من وزراء اليوم أن يبادروا ويقترحوا ويناضلوا من أجل ما يؤمنون به من أجل مشاريع مشتركة، تفيد الجميع وتدفع نحو أجواء وحدوية، ومن ثم إلى أهداف وحدوية.
وكما استجاب الجسم الطبي بحماس، واستجاب الجسم التربوي من دون تردد في خلق هذين المشروعين يداً بيد مع المسؤولين الحكوميين الملتزمين الشرفاء يستطيع المشهد ذاته أن يتكرر اليوم من دون أن تثبطه المآسي التي حلَّت بالعمل السياسي العربي القومي المشترك.
هذه أحد أنواع الردود المطلوبة في وجه التدخلات والأحلام الاستعمارية والصهيونية التي تسعى لتفتيت هذه الأمة وإضعافها وتدمير هويتيها العروبية والإسلامية.