هل البساطة مخجلة؟

00:21 صباحا
قراءة دقيقتين

أحياناً تتبدّل القيم في المجتمعات، فيُستبدل الجوهر بالمظهر، ويعلو الانطباع على المعنى، وربما نعيش اليوم إحدى هذه اللحظات، حين أصبحت البساطة تُرى على أنها ضعف، والتواضع في العيش يُفهم على أنه قصور، من كان يعيش ببساطة صار يشعر بالحرج، وكأنه لا يواكب التطور، ومن يتحدث ببساطة، يُظن أنه ساذج أو غير مثقف، ومن يختار أن يكون واضحاً، يُوصف بأنه بدون «كاريزما».
وفي النهاية، تحوّلنا إلى عالم يُرهق نفسه بالتكلّف في كل شيء في الأكل، في الملبس، في السفر، في الأعراس، في الكلمات، وحتى في «السوشيال ميديا»، كأننا نحاول إثبات شيء طوال الوقت أننا نملك، أننا نعرف، أننا نواكب، أننا الأفضل، أننا الأكثر تميزاً، حتى لو كان ذلك على حساب راحتنا أو صدقنا مع أنفسنا.
لقد أصبحنا نخجل من الأثاث البسيط، وكأنه لا يعكس ذوقاً راقياً، نخجل من ارتداء شيء مكرّر، كأن الملابس تُقاس بعدد مرات الظهور، وتحولت المناسبات الاجتماعية إلى عروض إنتاج ضخمة تُقاس بما وُضع على الطاولة، لا بما دار في القلوب، وهنا يأتي السؤال الصادق، من قرر أن البساطة عيب؟ ومن أوحى إلينا أن ما هو بسيط لا يكفي؟ ومن أوصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الطبيعي يحتاج إلى تبرير أو تزيين؟ البساطة ليست ضعفاً، بل وعي، هي أن تعيش دون ضجيج، أن تختار ما يناسبك لا ما يُملى عليك، هي أن تتحدث دون تصنّع، أن تلبس ما تحب، أن تعيش كما ترتاح، لا كما يُراد لك أن تبدو، والغريب أن من جرّب البساطة حقاً لا يعود عنها، لأنها تمنح الإنسان طمأنينة نادرة، فهو لا يُرهق نفسه بإبهار الآخرين، ولا يستنزف طاقته في المقارنة، ولا يحمل هاجس كيف أبدو؟ في كل خطوة يخطوها.
وليس من الصدفة أن كثيراً من العظماء والمبدعين عاشوا ببساطة، لأن العظمة لا تحتاج إلى برهان خارجي، وكلما ازداد الإنسان وعياً بنفسه، قلّ احتياجه لإثبات نفسه للآخرين، وازدادت قدرته على التفرغ لما هو أهم.
في زمن يغلب فيه المظهر على الجوهر، تزداد الحاجة إلى استعادة التوازن، فالرهان الحقيقي ليس في التفاخر بما نملك، بل في أن نعرف ما نحتاج اليه فعلاً ونكتفي به. فلنربِّ أبناءنا على احترام البساطة، لا احتقارها، على اختيار الأصل لا التقليد، على أن الرفاه لا يعني التكلّف، وأن الراحة لا تعني القصور.
ربما كانت البساطة هي الرفاه الحقيقي الذي نبحث عنه منذ زمن دون أن ندري، فهي لا تُشترى، ولا تُعرض، ولا يُفاخر بها، لكنها تُشعر صاحبها بالاتساع والاتزان، فلنعد إليها بثقة، دون خجل، ودون اعتذار.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"