عادي
صدر في الشارقة

«لو كان لشارع بيل أن يتكلم».. سرد مغزول بإيقاع الموسيقى

19:37 مساء
قراءة 5 دقائق
جيمس بالدوين - الرواية

الشارفة: علاء الدين محمود

السرد لا يكتفي فقط بكونه شهادة على الوقائع والأحداث، بل له دور أكبر من ذلك في تحريك القضايا ومحاكمة القيم الفاسدة وصناعة المواقف والانتصار للخير والحب والجمال.

رواية «لو كان لشارع بيل أن يتكلم»، للكاتب الأمريكي جيمس بالدوين، الصادرة في طبعتها العربية الأولى عام 2022، عن دار روايات، هي معزوفة مشحونة بالمشاعر تكاد تذوب رقة؛ حيث يوظف بالدوين كل خبراته الإبداعية في صناعة عوالم تحتشد فيها المواقف المضادة للقيم الاجتماعية السائدة، وتلك هي الثيمة الغالبة على كتابات هذا الروائي الكبير الذي نذر أدبه من أجل حياة الهامش.

في هذا العمل الأيقوني النابض بالحياة يجد القارئ شخصيات مهمومة تكافح من أجل قضيتها التي لا تنفصل عن قضايا الناس خاصة في أمريكا في حقبة مضت اتسمت بسيادة أفكار مثل العنصرية وغير ذلك من أشياء جعلت المجتمع منقسماً، وداخل حدود هذه المجتمعات المهمشة تتحدث الرواية عن الحب والعلاقات والأحلام الشاردة والبحث عن الطمأنينة وسلام الأرواح.

قصة حب

الحكاية المركزية في هذه الرواية هي قصة عشق جمعت بين حبيبين، ربما هي حكاية من المفترض أن تكون طبيعية، لكن في ما يبدو أن العاشقين قد اختارا التوقيت الخاطئ والمكان الذي تسكنه العنصرية، فالقصة تروى في العمل السردي بصوت تيش، وهي فتاة سوداء تبلغ التاسعة عشرة من العمر، وتعيش في حي هارلم الذي يقطنه السود في مدينة نيويورك، وترتبط هذه العلاقة برجل أسود يدعى فوني في عمر قريب من عمرها، حيث اتّفقا على الزواج وباركت العائلتان قرارهما، ولكن يحدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ اتهم فوني بقضيّة اغتصاب وأودع السّجن، بينما تكتشف تيش أنها حامل، وقتها، ولفقر عائلة فوني، تضطرّ عائلة الفتاة إلى تمويل رحلة بحث إلى بورتوريكو للعثور على الفتاة المُغتصبة الهاربة، والتأكّد منها: هل فعلاً قام فوني بتلك الفعلة الشنيعة؟ أم أن الشرطيّ بيل، المسؤول عن أمن الشارع الذي يسكن فيه فوني، هو من ألصق به هذه التّهمة؟ إنها رحلة تكشف صوراً من الظلم الاجتماعي والعنصرية وتشريع الجور، مقابل قوّة ضاربة من النضال المرفوع بأيدي الحُب والبراءة، وتلك هي حكاية فوني وتيش التي تشبه كثيراً قصص الحب الملحمية من حيث مواجهة الظروف القاسية وتحدي الصعاب التي لا تكاد تنتهي.

صوت البلوز

نجح جيمس بالدوين في كتابة قصّة رومانسيّة شبيهة بموسيقى البلوز، حيث خيوط الحُزن والفرح تنسُج قماشاً واحداً بديعاً ترتديه الشخصيّات لتنضح بالحياة حتى يكاد ضحكها يُسمع. لكنك لا تشعر بالحزن على القلبين الغضّين حين تقسو الحياة عليهما، بل يأخذك الانبهار من الجنين الذي، وهو في رحم أمه، يسيطر على والدته ووالده وأجداده وعمّاته وخالاته؛ كيف لنُطفة لا تزال تتخلّق أن تضخ كمّاً هائلاً من مشاعر الشجاعة والتضحية والأمل، وحتى الكره والقسوة واليأس، وأن تشقّ طرقاً جديدة للحياة في حيوات أناس لم يروها تكتمل بعد؟.

قوة الحب

هذه القصة حافلة بالمواقف الغريبة، ويسكنها الحزن في كل جانب منها، وتتربص الأقدار بشتى منعطفاتها، حيث صنع الكاتب أجواء شديدة القتامة، لكنه الواقع في ذلك الوقت على كل حال حيث يسود الظلم الاجتماعي والعنصرية والفوارق الطبقية، وكل ما يجعل علاقات الحب بين السود المختلفين أمراً غير مقبول، حيث تدور الرواية في عدة مواقف، وتركز على الكثير من القضايا، من خلال قصة تلك العلاقة التي جمعت بين تيش وفوني، وذهاب هذا الأخير إلى السجن، كما تكتشف الرواية القوة الكامنة في مشاعر الحب؛ حيث إن هذه القوة دعمت عائلة الفتاة وجعلتها قادرة على مواجهة المجتمع الظالم وقيمه البالية، وبعثت في الفتاة روح التحدي من أجل نصرة حبيبها والوقوف إلى جانبه، كما أن الرواية تسلط الضوء على ظاهرة العنصرية والظلم الذي يتعرض لهما السود في المجتمع الأمريكي، لكن الرواية لم تسر تماماً في ذلك الخط القاتم، فعلى الرغم من الظلم واليأس، فإن الأمل يبقى هو السبيل من أجل الانعتاق والتحرر والقدرة على المواجهة، حيث تفتح الرواية نافذة مشرعة للأمل وضرورة التمسك به.

فخ الخوف

الرواية تحمل الكثير من المضامين والمعاني، ولعل من أهم اللفتات في هذه القطعة السردية الشاعرية الفلسفية، ذلك التحذير من مشاعر الخوف، فهي التي تقود إلى الهزيمة وضياع الحقوق، حيث يربط بالدوين بطريقة فذة بين العنصرية والخوف. ويصوّر الخوف طوال الرواية كعامل يمنع الشباب الأمريكيين الأفارقة، مثل فوني وصديقه دانيال، من مواجهة اضطهادهم، بل ويتضح أن هذا النوع من العنصرية مُؤسسي؛ أي أن هياكل السلطة المحيطة بفوني وأحبائه تعمل بنشاط، فهي متورطة بشكل أساسي في زراعة الخوف حتى لا يتمرد أحد، كما أن الرواية تتناول كذلك صراع بطليها ضد كثير من الأعداء المرئيين والمستترين، فهناك المجتمع الذي تبرز عاداته وقيمه كسلطة يجب أن يخضع لها الجميع، وهناك صراع من نوع آخر يخوضه بطلا الحكاية ضد الزمن ومشاعر الترقب والتوتر في انتظار طوال الوقت لاكتشاف ما سيحدث أثناء محاكمة فوني، دون الاستسلام لليأس.

صمت

ولعل اللافت في هذه الرواية هو العنوان الذي قد يبدو غريباً، لكنه عتبة نصية مهمة تفضي إلى عمق الحكاية وما يدور فيها من وقائع وأحداث، بل إن العنوان هو حكاية متكاملة، فهو يشير إلى شارع بيل، وهو المكان الذي يسكن فيه تيش وفوني، فلو أن الشارع بيل كان قادراً على الكلام، لكان بإمكانه أن يروي الحقيقة، ويساعد فوني على التخلص من التهمة التي وجهت إليه، فلولا ذلك الصمت المطبق لما ذهب فوني إلى السجن، فالشارع متورط بالسكوت والصمت عن قول الحقيقة، كما يشير العنوان أيضاً إلى إحدى أغاني موسيقى البلوز الشهيرة.

*أساليب

تنوعت هذه الرواية بتنوع الأساليب السردية من اللغة الشاعرة المعبرة، وكذلك صناعة الصور والمشهديات والحواريات العميقة، وتسلسل الأحداث بصورة مؤثرة، وكذلك الشخصيات التي صممت بشكل يتناسب مع ما تحمل الحكاية من معانٍ عميقة، وربما ذلك ما جعل النقاد يعتبرون الرواية أحد الأعمال المركزية في مسيرة بلدوين، ولعل أهم ما يميز هذه القطعة السردية هو حبكتها التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة، إلا أنها شديدة المراوغة تنهض في بنائها بهدوء، وسرعان ما تتصاعد الأحداث بشكل ملحمي، وفي بعض الأحيان يلجأ الكاتب إلى السخرية والكوميديا القاتمة التي تحاول أن تمرر بعض العوالم المظلمة والقاسية.

*اقتباسات

«لا الحب ولا الرعب يجعلان الإنسان أعمى، بل اللامبالاة».

«إن كنتَ قد وثقتَ بالحب حتى الآن، فلا داعي للذعر».

«إنها معجزة أن تدرك أن شخصاً ما يحبك».

«الحب والضحك ينبعان من نفس المصدر».

«إنهم في الحقيقة يُعلّمون الأطفال أن يكونوا عبيداً».

«أتمنى ألّا يضطر أحد أبداً إلى النظر إلى شخص يحبه من خلال الزجاج».

«أكثر الأشياء غموضاً في الحياة ألّا تفهم إلا بعد فوات الأوان».

«لا نعرف ما يكفي عن أنفسنا».

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"