في الكلمة الأخيرة

04:53 صباحا
قراءة 3 دقائق
"في البدء كانت الكلمة" . لكن كلمتي هذه تأتي في النهاية . ثماني سنوات من الكتابة، معظمها متواصلة ومتصلة، أبحرت خلالها في بحر مضطرب يعج بالحروب والشقاق، والدجل والنفاق . عالم ملموء بالقهر والظلم والكذب، حافل بالشعارات البراقة التي تنضح بالازدواجية وتعدد المكاييل والمفارقات من كل شكل ولون .
كتبت عن فلسطين المحتلة في زمن تتقلص فيه مساحة الحلم وتتسع ثقوب الاختراق حتى باتت فلسطين على خارطة بعض الفضائيات "إسرائيل"، وحتى بات قاتل صهيوني يحظى بمساحة من "الرأي الآخر" أكثر مما يحظى جيل النكبة كله . حاولت أن أقول إن فلسطين هي ما نعرفها عليه وما عرفته عنا، وهي ليست ملاذاً لعصابات تسلقت على محارق أوروبا التي لم يقترفها الفلسطينيون ولا العرب . حاولت أن أذكّر "الحداثيين" الجدد من حملة الأقلام المسمومة وزبائن وزارات الخارجية الغربية بأن "إسرائيل" أداة استعمارية وإسفين تفتيت وفتن وشرطي مصالح، وليست حلاً لضحايا، فليست الضحية تنتقم لنفسها من ضحية .
كتبت عن مصر، قائدة العرب وأم الدنيا، ودافعت عن حقها في الخيار الديمقراطي بعد 25 يناير، وعن حق جميع القوى السياسية، بما فيها الإخوان المسلمون، بأن تصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لكن لبناء الوطن واستعادة دور مصر الريادي . وعندما بدأ حكم الإخوان يحيد عن مصر نحو الجماعة، كتبت ناصحاً، ثم اتجهت الجماعة للعنف ومواجهة الدولة والمجتمع، فكان لا بد من النقد وإشعال جرس التحذير، رأفة بشعب يكافح من أجل الحرية والكرامة ورغيف الخبز، ورأفة بأمة تكاد تفقد هويتها بسبب سياسات أخرجت مصر من موقعها .
ألقيت الضوء مراراً على مأساة العراق، وقلت ما يقوله كل عربي شريف عن دور الاحتلال الغربي في تدميره وتشريد أهله، وعن دور التدخلات الخارجية في نشر بذور الفتن والشقاق بين أبناء شعب عاش أبناؤه آلاف السنين في وحدة ووئام ومصاهرة، وعن دور أمراء الحرب من الأدوات ومعاول الهدم الطائفي والمذهبي في واحد من أعرق بلاد الكون .
سوريا لم تغب عن الوجدان، سوريا الدولة والشعب والدور والمصير، سوريا التاريخ والحضارة والعراقة، هذه لا يمكن اختزالها بنظام ومعارضة، كما لا يجوز التسليم بتركها تتآكل وتنهشها الغربان غريبة الشكل والمضمون مريبة الأهداف، وتضيع في زمة النقاش الغبي حول معادلة ال "مع أم ضد" النظام، فهي أكبر من النظام والمعارضة والإرهاب، وشعبها يستحق العيش بكرامة وحرية ومن دون تدخلات خارجية لا تريد لها الخير .
كان للسودان نصيب من الكلمة، قبل التقسيم وأثناءه وبعده . وما حذر منه وتوقّعه كثيرون حصل، إذ انسلخ الجنوب وراح قادته "يحجون" إلى "إسرائيل"، الداعمة الرئيسية للتقسيم . كتبت أن التقسيم لا يحل مشكلة جنوب أو شمال، وها هو الجنوب لم يكد يزهو بانفصاله حتى دخل في حرب داخلية تحصد أرواح المئات وتهجر الآلاف، وترمي معظم ناسه في أتون أسخن من الجوع والفقر والعوز .
وإن كانت كلمة تطوف قضايا الشعوب في كل مكان تقريباً، وتلامس الأزمات من ملمسها الإنساني بتجرد وبلا أي غرض غير إنساني، فإنها حلمت وما زالت تحلم بربيع عربي حقيقي غير ملون بالدم والدمار . كانت كلمة وجدت سقفاً جيداً يتيح لها الحركة والتنفس، وسط عالم يكاد يختنق . أودّع القراء مرتاحاً، فشكراً لجريدة الخليج .

أمجد عرار
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"