الإيديولوجيا والمصالح

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

يفتح التّفكير في الإيديولوجيا، من خارج نطاق ميدان المعرفة، على أفقٍ أرحب من الظّواهر والعلاقات التي يدخل الإيديولوجيُّ في تكوينها، والتي لا يمكن إحسانُ فهْمِ وظائف الإيديولوجيا إلاّ باستدخالها في نطاق التّفكير. مبدآن اثنان يمثّلان ركنيْن رئيسيْن في صرح الإيديولوجيا، كما في أدوارها في المداريْن الإنسانيّ والاجتماعيّ هما: الحاجة، أو المصلحة، والسّياسة. وهُما مختلفان في الطّبيعة، كما في الوضْع وفي الدّلالة، ولكنّهما قد يتداخلان وقد يُفيدان، أحياناً، المعنى عينَه. إنّهما المبدآن الألصق بعمل الإيديولوجيا؛ حيث تتجلّى فيهما هذه باستمرار. لذلك يمتنع التّفكير في المصالح من دون التّفكير في ذلك الذي يؤدّي وظيفة التّبرير والتّسويغ لتلك المصالح؛ أعني الإيديولوجيا. بالمقدار عينِه يمتنع التّفكيرُ في السّياسة والسّلطة من دون استدعاء دور الإيديولوجيا فيهما: تكويناً واشتغالاً؛ أي من طريق النّظر إليها بما هي جزءٌ من تكوين السّياسة والسّلطة وجزءٌ من منظومة عملهما في الآن عينِه.

تبدو النّظرة الإيديولوجيّة أفصح وأجْلى حين تدور على حاجةٍ أو مصلحة: فرديّة كانت أو جماعيّة. لا يقع ذلك، فقط، حين تنصرف تلك النّظرة إلى التّعبير عن نفسها في شأنٍ حاضر أو قضيّةٍ آنيّةٍ مباشرة، بل هو يقع حتّى حينما يكون الماضي (ماضي الجماعة) موضوع تفكيرها؛ حيث لا يمنعُ انصرامُ ذلك الماضي من وجود مصلحةٍ مّا في استدعائه ثانيةً وبناء منافع على ذلك. هذا ما يفسّر لماذا يتأثّر الفكر التّاريخيّ بالإيديولوجيا فيميل إلى التّفسير الإيديولوجيّ حتّى حينما يُصِرّ على التزام الموضوعيّة والنّزاهة. أمّا السّبب فيكمَن في أنّ هذا الفكر لا يَقْوى على التّجرُّد ممّا يشُدّه إلى الجماعة (المجتمع والأمّة) ومصالحها؛ تلك التي يظلّ يدافع عنها حتّى وهو يفكّر في ماضيها التّاريخيّ. هكذا لا يعود الماضي محايداً، في هذه النّظرة، بل يخضع لحاجات الحاضر ومطالبه. أمّا تَمَثُّل الجماعة لذلك الماضي فليس أكثر من واجهةٍ لِتَمَثُّلها نفسَها في ذلك الماضي و - الأهمّ - في الحاضر.

على منوال ارتباطها بحاجات الجماعة ومصالحها، ترتبط الإيديولوجيا بالسّياسة ارتباطَ تَلاَزُم. لا غرابة في ذلك ما دام مَبْنى السّياسةِ نفسها على المصالح، وما دام ثابتاً - بقوّة الأمر الواقع المتواتر- أنّ السّياسة لم تَقُم عليها معارف مختلفة فحسب (فلسفة السّياسة، علم الاجتماع السّياسيّ، علم السّياسة، الأنثروپولوجيا السّياسيّة...) بل قامت عليها - أيضاً - إيديولوجيات سياسيّة (مثل اللّيبيراليّة، والاشتراكيّة، والفوضويّة، والعدميّة، والإصلاحيّة والوطنيّة والقوميّة... إلخ). وليس من شكٍّ في أنّ القيام هذا يدُلُّنا على ما بينهما من اقترانٍ، مثلما يدُلُّنا على الأدوار التي تنهض بها الإيديولوجياتُ والخطابات الإيديولوجيّة في ميدان السّياسة ومنافسات السّياسة وصراعاتها في مجتمعات العالم المعاصر كافّة. إنّ المسألة الأهمّ في الموضوع هي النّظرُ في صلات الإيديولوجيا/السّياسة المتبادَلة، ومفعول كلٍّ من الحدّيْن في الآخَر.

على أنّه لمّا كانتِ السّياسةُ فاعليّةً اجتماعيّة دائرةً على المصالح؛ وكانتِ المصالحُ متباينةً وموطنَ نزاعٍ مِن قِبل مَن يتناولونها من مدخل السّياسة، وَجَبَ القولُ إنّ الإيديولوجيات السّياسيّة تختلف باختلاف الأهداف والمصالح وتنشأ بينها علاقاتٌ صراعيّة هي تعبيرٌ مكثّف عن علاقات الصّراع الاجتماعيّ. مع ذلك، لا يكفينا الإقرار بهذه الحقيقة المتقرّرة بداهةً، بل لا مندوحة عن التّشديد على أنّ وراء ذلك التّنازع بين الإيديولوجيات السّياسيّة يكمَن جامعٌ مشتَرَك خَلْفيّ؛ هو منطق التّفكير الإيديولوجيّ العابر لها جميعاً؛ فهي وإنْ كانت تختلف من حيث مضمونُها السّياسيّ - باختلاف مواقع حَمَلَتها - تلتقي في الآليات الذّهنيّة التي تصنعها كإيديولوجيات، أي كنمطٍ من التّفكير متمايزٍ عن غيره من أنماط التّفكير الأخرى.

يتعلّق الأمر، إذن، بتمييز بين صعيديْن من الإيديولوجيا: صعيد اجتماعيّ- سياسيّ، تبدو فيه الإيديولوجيا دائرةً مع المصالح وقواها ومسخَّرَةً، بالتّالي، لخدمتها منخرطةً في صراعاتها؛ وصعيد معرفيّ يتّصل بنمط الإدراك والتّصوّر الذي تَنْمازُ به الإيديولوجيا عن أنماط تفكيرٍ مقابِلة كمثل اللاّهوت والفلسفة والعِلم، والذي يُحايِث الإيديولوجيات السّياسيّة على ما بينها من اختلافات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/52m8h2y5

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"