العناصر التأسيسية للفكر القومي العربي

04:03 صباحا
قراءة 7 دقائق

كان الفكر القومي منذ نشأته، ولا يزال، أسير ملابسة تاريخية واقعية تكمن في العجز الموضوعي عن فك عرى العلاقة بين العروبة والإسلام. فإذا تجردت العروبة من التراكم الحضاري (الثقافي) الإسلامي لا يبقى الشيء الكثير منها كأساس لتراث حقيقي، وإذا تجردت العروبة من تاريخ الإسلام السياسي لا يبقى لها سند فعلي كأمة ذات تاريخ مستقل.

بعد قرنين تقريباً من انبعاث الفكر القومي تعود المسألة نفسها التي بذل فيها حبر كثير.

جاء الفكر القومي منذ لحظته التأسيسية ردة فعل على انهيار الرابطة الإسلامية نتيجة الأزمة الحضارية الشاملة للإمبراطورية العثمانية وصعود الأفكار والمشاريع القومية، خصوصاً في الجزء الأوروبي من تلك الإمبراطورية، قبل أن يفكر العرب في إيجاد الطروحات والمسوغات الفكرية لمشروعهم القومي.

لم يفكر العرب بداية في الانفصال عن الدولة العثمانية. حاولوا أن يبلوروا هويتهم القومية من أجل تحسين سبل المشاركة مع العثمانيين بوصف العرب أصحاب مساهمة أساسية في الحضارة، لأنهم قدموا للشعوب الأخرى رسالة الإسلام. سعى العرب حتى مرحلة متقدمة لأن يشكلوا دولة اتحادية، وطالبوا باللامركزية السياسية والاتحاد الفيدرالي مع الأتراك. هذا على الأقل ما كانت عليه الأمور حتى المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913.

اطلع المثقفون العرب على الفكر القومي الغربي (الأوروبي) بصيغته النظرية قبل أن يتجسد في الدولة القومية في النصف الأول من القرن العشرين. لكن هذا الفكر القومي ارتبط بأفكار النهضة بداية وعنى بشكل خاص موضوع الإصلاح. لقد بدأت فكرة الدولة القومية كمشروع لبناء دولة حديثة مرتبطة بتطور الاقتصاد وحق الأسواق البرجوازية بالحدود والحماية. قاوم هذا الفكر الهيمنة السياسية للكنيسة والإقطاع. الكنيسة بما هي مشروع فوق قومي والإقطاع بصفته عنصر تجزئة وتخلف في وجه السوق القومي واحتياجاته للتوسع والنمو.

شكل منتصف القرن التاسع عشر بداية واضحة للضعف العثماني، فقد خسرت تركيا الحرب مع روسيا واقتحمت فرنسا عدداً من ولاياتها.

بدأت الحركات القومية الانفصالية في بلاد اليونان ووقع المغرب العربي تحت الاحتلال الفرنسي وانفصلت مصر عن الدولة، وشهدت بلاد الشام العديد من الانتفاضات الشعبية الفلاحية والحرفية. بدأت حركة من الإصلاحات داخل تنظيمات الدولة بهدف مواجهة هذه التحديات.

لكن من الواضح أن ميزان القوى العسكري كان قد اختل لمصلحة الغرب، وطبعاً ميزان القوى الاقتصادي، وأسهم التغلغل الرأسمالي في أسواق الدولة العثمانية في جذب فئات واسعة إلى الحركة المعارضة والى تبني الأفكار الإصلاحية ومنها الأفكار القومية.

لكن السياق الذي سارت عليه الأمور هنا كان مختلفاً عنه في الغرب. فقد كان النظام الذي أدارت من خلاله الدولة العثمانية تلك البلاد الواسعة الممتدة من أوروبا إلى آسيا وإفريقيا نظاماً مركزياً من الناحية الشكلية. كانت الكثير من المناطق تدار بواسطة القوى والعصبيات المحلية. ظلت المناطق العثمانية متفاوتة في تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتباينت صلاتها بالخارج. أدى تفاوت التطور بين المكونات الاجتماعية إلى ردات فعل مختلفة بين أنحاء الإمبراطورية. كان من السهل مثلاً على بلاد اليونان أن تعلن انفصالها القومي وانشدادها إلى الجانب الأوروبي، خصوصاً بسبب ثقافتها الدينية المستقلة. بينما اتخذت حركة المعارضة في الجزيرة العربية طابع الأصولية الدينية (الوهابية)، وكذلك كان الحال في السودان (المهدية) وليبيا (السنوسية). بينما اتجهت بلاد المشرق العربي بتأثير قوي من التنوع السكاني، ولا سيما العنصر المسيحي وصلاته التبشيرية والدينية والثقافية بالغرب نحو نزوع سياسي أكثر علمانية.

إن القراءات المنصفة للتاريخ تسجل اليوم إن الدولة العثمانية عرفت نموذجاً من التسامح الديني ومن البنية التعددية قل نظيرها، عندما كانت أوروبا تعيش في ظروف الحروب الدينية والتي انتهت إلى إقرار مبدأ الناس على دين ملوكهم. أسهم الاحتفاظ بهذه البنية في أن تتعزز الثقافات الفرعية ولا سيما القومية والدينية. ولم تظهر النزعة القومية الشوفينية عند الأتراك إلا في مطلع القرن العشرين كردة فعل على الصراعات القومية الأخرى وبداية تفكك السلطة المركزية. إلا أن المشروع القومي العربي هو الآخر لم يتحول إلى مشروع انفصالي إلا في مرحلة متأخرة.

كانت حركة محمد علي باشا في مصر حركة تجديدية وليست حركة قومية بالمعنى الصحيح للكلمة. وكذلك كانت الحركة الوهابية حركة أصولية دينية جاءت ردة فعل على فشل المشروع الإسلامي السياسي التقليدي الذي مثلته السلطة العثمانية.

سبقت الحركة القومية حركة إصلاح اتجهت إلى إنقاذ الإسلام السياسي من التخلف الذي ظهر في المواجهة مع الغرب (حركة التنظيمات). ولعل خير تجسيد لذلك حركة المفكرين العرب الإصلاحيين وكذلك المسلمين من جنسيات مختلفة، كجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وشكيب أرسلان.

جاء العرب إلى الفكر القومي من باب إحياء الإسلام. ذلك أن العرب اعتبروا دائماً أن لهم الفضل الأكبر في الحضارة الإسلامية. واعتقدوا أن الإسلام السياسي غير العربي ساهم في التقهقر والتخلف ورأوا وجوب إحياء التراث العربي كمقدمة لمشروع النهضة.

وليس مصادفة أن أول مهمة للإحياء العربي كانت متجهة إلى إحياء اللغة العربية وآدابها. فلم يكن العرب يفكرون في أنهم يمتازون عنصرياً على غيرهم من الشعوب التي شاركتهم في الدين الإسلامي. لذلك نجد أن الفكر القومي العربي غالباً ما ركز على التراث اللغوي، وبالتالي على المرجع اللغوي الأساس والحاضن للثقافة العربية، أي القرآن الكريم.

جاءت يقظة العرب القومية كمحاولة لإحياء الإسلام السياسي وليس للانفصال عنه. ظلت هذه الملابسة قائمة حتى الآن. بل إن العرب لم يفكروا في الانفصال عن الدولة العثمانية ولم يقطعوا حبل اتصالهم الديني بها إلا في فترة متأخرة مع انهيار الدولة العثمانية وسيطرة الاستعمار الأوروبي (حركة الشريف حسين 1916).

كان الاهتمام بلغة الضاد هو الأول لاستنهاض العروبة، كما كانت العودة إلى نقاوة الإسلام الأول إيذاناً بالحديث عن الدور العربي في الإسلام.

إن عبدالرحمن الكواكبي مثلاً (1849 - 1903) الذي كتب طبائع الاستبداد وأم القرى عالج بصورة أساسية تخلف الإسلام بسبب غياب الدولة المستندة إلى الحرية وإحكام العقل، وهو إذ يدعو إلى إعادة الدولة إلى سكة العدالة يدعو إلى نقل السلطة إلى أولئك الذين قدموا رسالة الإسلام بصفته النظام العادل.

طبعاً، كان مسيحيو سوريا أكثر تحرراً من زملائهم المسلمين في النظرة إلى طبيعة الدولة الحديثة. فلم يكن لديهم هذا الالتباس مع الإسلام. وهذا ما تجلى في فكر بطرس البستاني واليازجيين، وأسهمت الأحداث الطائفية في لبنان وسوريا (1860-1861) بالانتماء المواطني على أساس القومية بعيداً عن الانتماءات الدينية.

وفي تلك الفترة اشتغل المؤرخون على فكرة التاريخ الواحد لسوريا، ومنهم المطران الماروني يوسف الدبس. سعى جرجي زيدان إلى إحياء التراث العربي من خلال سلسلة رواياته التاريخية. أما جيب عازوري الكاثوليكي فقد أسس عصبة الوطن العربي في عام 1904 وأصدر مجلة عام 1907 تعنى بمسألة الاستقلال العربي. ويعتبر كتابه الأكثر أهمية يقظة الأمة العربية المنشور عام 1907 والذي يتحدث فيه عن أمة عربية مكونة من مسيحيين ومسلمين. ووجوب إقامة دولة على أسس دستورية وليبرالية.

لكن مع ظهور الحركة القومية التركية وصعود تركيا الفتاة والنزعة الطورانية تطور موقف غالبية المثقفين العرب باتجاه بلورة المشروع القومي وقد كانت بداية هذا المسار المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس عام 1913.

لكن أفكار هؤلاء المثقفين بقيت تطالب باللامركزية إلى زمن الحرب العالمية الأولى (1915) وقيام الحركة العربية بقيادة الملك فيصل (1916) جراء الوعود الغربية بتحقيق استقلال العرب. لذلك نجد أن المفكرين القوميين الذين بلوروا المشروع القومي باتجاهاته المختلفة في مطلع القرن العشرين أو النصف الأول منه قد تأثروا بهذه العناصر، فلم يتجه الفكر القومي العربي إلى العنصرية (الجنسية) القومية كأساس في المشروع القومي، فهم ركزوا بصورة أساسية على اللغة والثقافة (ومنهم بشكل خاص قسطنطين زريق) أو كما هو الحال المفكر العربي ميشال عفلق، الذي رأى في الإسلام روح الأمة ورسالتها الحضارية. أو حتى انطوان سعادة في نظرته إلى المتحد القومي على أساس علماني غير معادٍ للدين. (المسألة الكردية والأمازيغية والقبطية) لولا أن الممارسة السياسية للنظام السياسي العربي جاءت في اتجاه مختلف. من هنا نعتقد أن فكرة العروبة كرابطة حضارية هي أفضل ما يمكن أن يعاد بناء الفكر القومي عليه في المرحلة المعاصرة. العروبة بصفتها الهوية الثقافية والحضارية غير المعادية للتراث الديني بتفرعاته الإسلامية والمسيحية. لكن أخطر ما تواجهه العروبة الآن هي إعادة بناء مشروع الدولة على أسس دينية. فالتراث هو التراث والموروث هو الموروث، أما المستقبل فهو عقد وطني واجتماعي يبنى على الاجماعات المشتركة لبني البشر.

في القرن العشرين تم اشباع الهوية الثقافية والسياسية القومية، ورغم كثرة التجارب الوحدوية في النصف الثاني من ذاك القرن فشل العرب في بناء الدولة القومية، هم لم يخرجوا عن السياق العام للفكر القومي، فلماذا نجح الآخرون وفشلوا هم؟ طبعاً هناك أسباب خارجية وداخلية يطول شرحها. هناك خصوصية لتعامل الغرب الاستعماري مع المشروع الوحدوي العربي ويكفي أن نذكر الدور الإسرائيلي كأحد العناصر. لكن الأسباب الداخلية ليست قليلة. حين نتحدث عن العلاقات اللبنانية السورية مثلاً ونكستها الخطيرة فلا بد أن نشير إلى تخلّف فكرة الدولة ومشروع الدولة عند الجانبين. نشأت علاقات بصرف النظر عن ظروفها التاريخية بين سلطات وليس بين مشروعي دولة هنا وهناك رغم التمايز الكبير بين الإنجاز السوري الداخلي على هذا الصعيد وتماسكه واستقراره وفوضى النظام اللبناني. ورغم أهمية تفاصيل العلاقة لكنها تبقى ثانوية إزاء مشكلة فكرة الدولة. لقد خرجت سوريا من لبنان وحضانتها المباشرة له لكن اللبنانيين أنفسهم عاجزون عن بناء دولتهم. أما السوريون فهم عاجزون عن تقديم تصور حتى الآن عن أسس العلاقة بين دولتين. غلبة السياسي والأمني في طبيعة العلاقة هو أحد مصادر الخلل. في عمق العلاقة الشعبان يريدان علاقات طبيعية بل تكاملية.

في واقع الأمر فشلنا في البناء ما تحت السطح السياسي الذي تتجاذبه المصالح الصغيرة للقوى السياسية والطائفية في لبنان، على مستوى الأمن القومي لعبت سوريا دوراً مركزياً في منع تفكك لبنان لكنها لم تساعد مشروع الدولة فيه وخارج الدولة لبنان مجموعة من الطوائف المتنازعة. تجديد المشروع العربي عموماً يحتاج إلى ثلاث ركائز. تطوير مفهوم وصيغة الدولة القطرية على حساب مفهوم السلطة والنظام لأن الدولة القطرية هي جزء من المتحد المستقبلي. توسيع نطاق المشاركة والديمقراطية ورفع منسوب الحريات العامة والفردية لأن ذلك أساس فعل العرب بجميع طاقاتهم. التركيز مجدداً على خطط التنمية التي لا أفق لها أصلاً خارج التكتلات الإقليمية وبالتالي المدى العربي أولاً وأساساً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"