عادي

عباس العقاد المثقف الموسوعي وعبقري الأدب العربي

قمم خالدة

03:08 صباحا
الصورة
إعداد: عثمان حسن

«ما أجدر هذا الفتى أن يكون كاتباً بعدُ».. نبوءة من إمام الأدب والعلم في وقته، محمد عبده، في حق ذلك الفتى الذي وقف في الفصل الدراسي أمامه، يناقش ويحاجج، بلغة أدبية لافتة، وحجة عقلية يندر أن تكون ممن في سنه.
وصدقت فراسة محمد عبده، فكان الفتى «بعدُ» عَلماً من أعلام جيل النهضة، كاتباً بديعاً، في الشعر والنثر، صاحب رأي لا يوارب في النقد والدراسة التاريخية، مطلعاً على كثير من العلوم والآداب العربية وغير العربية، كل هذا ولم يكن يحمل من الشهادات أكثر من الابتدائية، لكنه حمل همة لم تكن لترضى لصاحبها إلا أن يكون ما كان.. «عباس محمود العقاد».
منذ سنوات الشباب الأولى «اضطر» عباس العقاد إلى العمل في سلك الوظيفة الحكومية، بما سمح له مؤهله الذي اقتصر على الشهادة الابتدائية، مع كونها شهادة ذات حظ من الاعتبار في ذلك العصر.
و«الاضطرار» هنا هو حالة خاصة بعباس العقاد، الناقم على الوظيفة و«الاستخدام» منذ جرب هذا الطريق، حتى كتب مقالة شهيرة عنوانها «الاستخدام.. رق القرن العشرين»، وإلا فإن الوظيفة الحكومية كانت مطلباً ومغنماً يسعى إليه الكثيرون.
ويكفي لتوضيح نقمة العقاد على الوظيفة أن نقرأ بعض ما كتب في هذا الشأن:
«ومن السوابق التي أغتبط بها أنني كنت فيما أرجح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين. وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره.
وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة كما كانت يومئذ عملاً آلياً لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملاً إلا كعمل المسامير في تلك الأداة».
وهكذا، تنقل العقاد من وظيفة إلى أخرى، ومن مدينة إلى ثانية وثالثة، يحتمل ما يحتمل، ثم لا يلبث أن يستقيل، رغم ضيق حاله وحاجته إلى دخل ثابت، لكنه كان لا يرى له موضعاً في ذلك كله، فهو كاتب أديب، ولا بد من أن يجد طريقه لتحقيق ذاته حيث يريد.
ولأن الصحافة كانت باب الأدب الواسع، فقد اجتهد العقاد في طرق أبوابها، يراسل الصحف، وينشر فيها، أو يعمل محرراً كاتباً، حتى أصبح بعد سنين علماً من أعلام الصحافة المصرية والعربية.
وحين اتجه للعمل الصحفي، عمل بجريدة «الدستور» المصرية، كما أصدر جريدة الضياء، وكتب في أشهر الصحف والمجلات آنذاك.

في السياسة

عرك العقاد السياسة وعركته، ودخل ميدانها من باب الصحافة والكتابة السياسية أولاً، ثم نائباً منتخباً في مجلس الشعب. وقد انضم العقاد بعد ثورة 1919 إلى حزب «الوفد» وأصبح كاتبه الشارح لمواقفه السياسية والمنافح عنها، ثم تمرد عليه عام 1935 فهاجمه وانتقده بشدة.
ودخل معركة حامية مع الملك فؤاد، وانتقده بحدة داخل البرلمان، فحُوكم عام 1930 بتهمة «عيب الذات الملكية» وسجن تسعة أشهر، لكنه أيد الملك فاروق بعد مغادرته «الوفد».
وكان العقاد في كل الأحوال، من كبار المدافعين عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، وقد دفع ثمن مواقفه الوطنية وطبيعته الحادة في الإعراب عن رأيه بالسجن لمدة تسعة أشهر عام 1930 ؛ فحينما أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن «الأمة مصدر السلطات»، والأخرى أن «الوزارة مسؤولة أمام البرلمان»، ارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الأشهاد من أعضائه قائلا: «إن الأمة على استعداد لأن تسحق من يخون الدستور ولا يصونه».
وفي عام 1943 اضطر العقاد إلى الهرب إلى السودان، بعد أن أعلن موقفه المعادي للنازية خلال الحرب العالمية الثانية.

معاركه الأدبية

العقاد من أشهر الأدباء الذين عرفوا بما خاضوه من معارك ومساجلات مع أدباء عصره وأعلامهم. ولا عجب، فهو صاحب الرأي الأبلج، الذي يعبر عنه بلا تردد، ويدافع عن موقفه بحجج واضحة، تدعمها بلا شك ثقافته الموسوعية، التي سمحت له بأن ينظر إلى الأمور بعين الخبير، ويصدر الرأي فيها بأسلوب الناقد الأديب، الذي يعرف ما يقول حق المعرفة.
وقد تعددت موضوعات هذه المعارك الأدبية، وتعدد فيها الخصوم، فكانت معاركه مع الأديب مصطفى صادق الرافعي حول فكرة إعجاز القرآن، واللغة بين الإنسان والحيوان، ومع عميد الأدب العربي طه حسين حول فلسفة أبي العلاء المعري ورجعته، ومع الشاعر جميل صدقي الزهاوي في قضية الشاعر بين الملكة الفلسفية العلمية والملكة الشعرية، ومع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في قضية وحدة القصيدة العضوية ووحدتها الموضوعية، إلى جانب معارك أخرى جمعها عامر العقاد في كتابه: «معارك العقاد الأدبية».
كما ألف العقاد مع صديقه وزميله في «مدرسة الديوان»، إبراهيم المازني، كتاباً ينقد فيه شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، ويخالف مذهبه الشعري.

العقاد الشاعر

الحديث عن نقد العقاد لشعر شوقي يقود إلى فتح صفحة «العقاد الشاعر»، وقد صدر له دواوين شعرية منها: «يقظة الصباح»، «وهج الظهيرة»، «أعاصير مغرب»، «أشجان الليل». وكان محافظاً في الشعر، لا يرى الخروج عن عموده وقافيته وأوزانه المعروفة.
وعلى الرغم من أن العاطفة والخيال حاضران في شعر العقاد، فإن بعض الدارسين يرون أن العقل غلب على كثير من شعره، فكان المنطق والفلسفة والحجة العقلية ملامح شائعة في أشعاره. وهذا بعض نظمه:
والعقل من نسل الحياة وإنما
قد شاب وهي صغيرة تتزين
والطفل تصحبه الحياة وما له
لب يصاحب نفسه ويلقن
إن العواطف كالزمام يقودنا
منها دليل لا تراه الأعين
ومنه قوله في الشعر:
والشعر ألسنة تفضي الحياة بها
إلى الحياة بما يطويه كتمان
لولا القريض لكانت وهي فاتنة
خرساء ليس لها بالقول تبيان
ما دام في الكون ركن في الحياة يرى
ففي صحائفه للشعر ديوان

العقاد لا يجامل

كان العقاد مقدرا في زمنه، وصاحب رأي ومشورة، وحين كان يبدي إعجابه في شخصية ثقافية أو إعلامية، كانت آراؤه تنطوي على فهم ودراية ومسؤولية، وكان في كل الأحوال لا يجرح أو يهين، بل كان مهذبا في إبداء الرأي حصيفا، وحريصا على الموضوعية والصدق.
وقد نشر عبدالرحمن الشرقاوي في «المصري اليوم» مقالة بتاريخ 7 أكتوبر يستعيد فيها ما سبق ونشره العقاد في مجلة «الاثنين» في عددها الخاص رقم 404 بتاريخ مارس عام 1942، تحت عنوان «صحفيون على المشرحة» كشف فيه الكاتب الراحل أن محرر المجلة طلب منه أن يكتب رأيه في طائفة مختارة من الصحفيين، ورغم حيرة العقاد من السؤال ولماذا اختاره هو دون غيره، إلا أنه قرر في النهاية أن يدون رأيه في عدد من الصحفيين، قائلاً: «على كل حال قد سئلت، وعلى كل حال سأجيب، وإليه الجواب».
ونشر العقاد مقالته مبدياً رأيه في عدد من الكتاب والصحفيين منهم: انطوان الجميل بيك، خليل ثابت بيك، وإبراهيم المازني، وفكري أباظة، ومحمود أبو الفتح، ومصطفى أمين وكامل الشناوي وغيرهم، وفيما يلي مقتطف من رأي الكاتب الكبير في إبراهيم المازني:
صديقنا المازني في رأي بعض الناقدين أديب وليس بصحفي، أما أنه أديب فلا موضع فيه للكلام، أما أنه ليس بصحفي، فالذي أعرفه أنه كان مرشحًا للصحافة، وهو لا يزال في سلك التدريس، ولا أدري هل يذكر الآن، أو قد نسي نبوءتي له بالمستقبل الصحفي قبل خمس وعشرين سنة.
كنا نعلم التاريخ والأدب والترجمة في المدرسة الإعدادية، وكان عليه أن يلخص دروس التاريخ ويطبع نسخًا منها لتوزيعها على التلاميذ، فتناول القلم وأمامه كتاب إنجليزي يقرأه ويلخصه ويترجمه ويكتبه في وقت واحد كأنه ينقل من كتاب.
وعجب زميلان، لعلهما مدير المطبوعات الحاضر الأستاذ فريد أبوحديد، وسكرتير مجلس الوزراء كامل سليم بك، فقلت: إن الصحافة أولى به من التدريس، لأنها تحتاج إلى مثل هذه السرعة، ولا تجدها في كثيرين، وقد كان.
فلما انعقدت المحكمة العسكرية الإنجليزية للنظر في قضية عبدالرحمن فهمي بك وزملائه، كان محضر الأستاذ المازني في صحيفة الأخبار أو في المحاضر وأمتعها بلا استثناء.
وقد اختبرته صحافة الاستقرار في المكاتب، ولم تختبره صحافة الطواف والانتقال، ولكنه لو عالج وصف الرحلات وتمثيل الصحف في الميادين لكان فيما أعتقد من الطراز الأول بين كتاب هذا المجال.

وفاته

وهب العقاد حياته للأدب، فلم يتزوج، ولكنه جرب الحب في حياته، وخلد ذلك في روايته «سارة».
وفي السادس والعشرين من شوال عام 1383 للهجرة، الموافق الثاني عشر من مارس عام 1964 للميلاد، فاضت روح الأديب الكبير، العبقري صاحب العبقريات، والألمعي الشاعر الناقد، والصحفي السياسي، والموسوعي بعلمه وأدبه وسيرته.
وقال في القراءة:
القراءة ليست من الكماليات أو شيء للرفاهية، بل هي فريضة إسلامية.. ألم تسمع قوله تعالى «اقرأ» هذا أمر!.
**
القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقا وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب.
** لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لازداد عمرا في تقدير الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة - دون غيرها- هي التي تعطيني أكثر من حياة، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق.
**
إن الكتب مثل الناس، فيهم الوقور والظريف، وفيهم الساذج والصادق، وفيهم الأديب والمخطئ، والخائن والجاهل، والوضيع والخليع.

عن السيرة

العقاد هو ابن أسوان، أرض النوبة والتاريخ في جنوب مصر، وقد ولد أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً في شهر يونيو من عام 1889، حيث نشأ في كنف والده، الموظف بدائرة المحفوظات، وأمه ذات الأصول الكردية، جاداً في طلب العلم، حتى حصل على الشهادة الابتدائية بتفوق. وكان أن منعت الحالة المادية الطالب النابغ من أن يحصل على فرصته في إكمال دراسته، وهو ما حرص العقاد فيما بعد على تعويضه بالمواظبة طول حياته على القراءة الحثيثة في اللغتين العربية والإنجليزية، حتى تمكن من تحصيل ما لم يتيسر لكثير من أصحاب الشهادات الجامعية العليا.

من أقواله:

* فشَتِ الجهالَةُ واستفاضَ المُنكَرُ.. فالحَقُّ يَهمِسُ والضّلالَةُ تَجْهَرُ، والصّدقُ يسْرِي في الظّلامِ مُلثّماً.. ويسيرُ في الصّبحِ الرّياءُ فيُسفِرُ.
* الناس تغيظهم المزايا التي تنفرد بها ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا.. إنهم يكرهون منك ما يصغرهم لا ما يصغرك.
* إن العواطف المُزيفة أروَج في هذه الدنيا من العواطف الصحيحَة، فلا أسفَ إذاً على رأي الناس في الناس ولا اعتداد إذاً بما يقال ومن يقُول.
* يحفرون عيبك على النحاس ويكتبون فضائلك على الماء.
* النساء يعجبن بالرجل بقدر حظه من الصفات اللازمة لحمايتهن كالنخوة والبسالة والفروسية والبطش والقوة.
* إن أكبر عقوبة يمكن أن يعاقب بها الإنسان: أن تكون له نفس ملونة.