أوروبا الشرقية وخيار تيتو

05:03 صباحا
قراءة 5 دقائق

إن قصص النجاح في المنطقة التي يطلق عليها الاتحاد الأوروبي الجوار كانت صعبة المنال . فأولاً جورجيا، ثم أوكرانيا، ومؤخراً مولدوفا، كانت جميعها من بين الآمال العريضة للاتحاد الأوروبي . ولكن في كل من هذه الحالات تبددت الآمال . ومن المؤسف بالنسبة للاتحاد الأوروبي أن مؤتمر القمة السنوي لهذا العام مع أوكرانيا (في الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني) من المرجح أن يعرض هذا الفشل على رؤوس الأشهاد .

إن هذه القمة تأتي في وقت ميمون، حيث يستعرض الاتحاد الأوروبي سياسة الجوار (التي بدأها في عام 2004) والشراكة الشرقية (التي أطلقها في عام 2009)، قبل قمة بودابست الثانية الكبرى في ظل رئاسة المجر للاتحاد الأوروبي في مايو/أيار ،2011 ولكن فرنسا كانت متكاسلة في ما يتصل بتيسير متطلبات التأشيرة لأهل أوكرانيا، ويشعر مفاوضو الاتحاد الأوروبي بالإحباط بسبب عدم إحراز أي تقدم في اتجاه إبرام اتفاقية التجارة الحرة العميقة، ويلقون بالمسؤولية عن هذا على حكومة القِلة في أوكرانيا، والتي عادت إلى السلطة منذ أصبح فيكتور يانوكوفيتش رئيساً للبلاد في فبراير/شباط .

ومن بين المشاكل القديمة في هذا السياق الافتقار إلى الحماسة من جانب الاتحاد الأوروبي للمزيد من التوسع إلى المنطقة . ومؤخراً كان لزاماً على الاتحاد الأوروبي أيضاً أن يواجه واقع التنافس مع روسيا في ما أطلق عليه الرئيس ديمتري ميدفيديف مجال المصالح المميزة لروسيا . ولكن المشكلة أصبحت على نحو متزايد مع دول أوروبا الشرقية ذاتها .

أولاً، هناك دول جديدة كانت سيادتها محل تنازع في كثير من الأحيان منذ ولادتها في عام ،1991 وظلت ضعيفة منذ ذلك الوقت . فقد استقلت هذه الدول نتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي، ورغم أن بعض هذه الدول شهدت ثورات وطنية فإن النخبة السوفييتية والثقافة السياسية ظلت راسخة في أغلبها . فالفساد مستشر، والاستيلاء على الدولة من قبل أصحاب المصالح الخاصة القوية أصبح هو القاعدة، وباتت الفاعلية المؤسسية والقدرة على الإصلاح في غاية الضعف .

ثانياً، كان اقتصاد هذه البلدان ضعيفاً . فباستثناء أذربيجان الغنية بالنفط، لا تتمتع هذه البلدان إلا بالقليل من الموارد الطبيعية أو التصنيع العالي القيمة، في حين تتمتع بقطاعات زراعية ضخمة . وهي تعتمد أيضاً على الريع الاقتصادي أو المشتقات الروسية بدلاً من إضافة القيمة فأوكرانيا تجني الأرباح من نقل الغاز عبر أراضيها، وبيلاروسيا من تكرير النفط .

والعديد منها تبيع المواد الخام أو المنتجات الأساسية الصلب الأوكراني على سبيل المثال حيث تعتمد القدرة التنافسية في مجال التصدير على أسعار السلع الأساسية العالمية أكثر من اعتمادها على جودة المنتجات . والبلدان اللذان يبدوان الأكثر نجاحاً بين بلدان المنطقة بيلاروسيا وأذربيجان هما الأكثر بعداً عن نموذج الاتحاد الأوروبي . والواقع أن حظهما الطيب ليس راجعاً إلى سياساتهما المحلية، بل إلى المواد الهيدروكربونية في حالة أذربيجان، وعلى إعانات الدعم الروسية في حالة بيلاروسيا .

والواقع أن تأثير المحاكاة الذي حفّز الإصلاح في أوروبا الوسطى في تسعينات القرن العشرين لا يحقق نجاحاً يُذكَر حين نتجه أبعد إلى الشرق . وخلافاً للدول التي رشحت للالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي في التسعينات، فإن دول أوروبا الشرقية والقوقاز ليس لديها حافز كبير أو لا تمتلك القدرة اللازمة لتبني مجموع قوانين الاتحاد الأوروبي، والتحرك إلى الأعلى على سلسلة القيمة .

ثالثاً، ورغم أنها قد تحتج بشدة على مثل هذا الوصف، فإن دولاً مثل أوكرانيا يُفَضَل النظر إليها باعتبارها قوى موازنة أكثر من كونها قوى قابلة للانضمام . فممارسة لعبة التوازن بين روسيا والغرب تسمح لأهل النخبة بالبقاء في السلطة، والحفاظ على اقتصاد الأقلية في ظل توازن شبه الإصلاح الذي قد يكون ضاراً لولا ذلك .

والواقع أن الزعماء المحليين اليوم، وأشباه تيتو (جوزيف بروز تيتو رئيس يوغسلافيا الأسبق) في العصر الحديث، غير قادرين أو غير راغبين في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو روسيا . ولكن كلاً من روسيا والغرب مهتمان بالقدر الكافي بتغذية لعبة التوازن بالموارد الكافية لتمكين الزعماء المحليين من التصدي للخصوم وتبرير افتقارهم إلى الرغبة في الإصلاح . وتشكل بعض هذه البلدان قوى موازنة رغماً عنها . فحكومة مولدوفا الحالية، التحالف من أجل التكامل الأوروبي، قد تكون أكثر تأييداً لأوروبا إذا لم تشهد كيف تعاملت روسيا مع الحكومات التي يفترض أنها تؤيد الغرب في جورجيا وأوكرانيا من قبلها . وبعضها تمارس اللعبة بقدر كبير من الاستمتاع من عجيب المفارقات أن رئيس بيلاروسيا ألكسند لوكاشينكو أصبح فجأة أشبه بالقدوة الإقليمية في هذا الصدد .

أما الدور المتزايد الأهمية الذي تلعبه قوى أخرى في المنطقة إيران وتركيا، ولكن الصين في المقام الأول فإنه يمنح القادة المحليين المزيد من المساحة للتملص والمراوغة، وخاصة لأن الاستثمار الصيني لم يكن مرتبطاً بأي شروط سياسية على الإطلاق على حد تعبير لوكاشينكو أثناء زيارة قام بها إلى بكين .

الأمر الرابع أن عناصر إجمال بكين بدأت تدخل على نحو متزايد إلى المنطقة عبر الباب الخلفي . ففي ظل تراجع أوكرانيا تحت حكم يانوكوفيتش عن الإصلاحات الديمقراطية، يقول وزير الخارجية كوستيانتين غريشينكو إن أوكرانيا لابد أن تستعين بأفضل ما في تجربة الصين، وخاصة القدرة على التفكير والعمل استراتيجياً وهو أمر أسهل كثيراً بطبيعة الحال في بلدان حيث لا تواجه الحكومة أي معارضة . ويستطيع الاتحاد الأوروبي أن يستمر في محاولاته اليائسة الرامية إلى تطبيق سياسة واحدة تناسب الجميع في التوسع المخفف في المنطقة . أو قد يكون بوسعه أن يعمل بقدر أعظم من الجهد لتحويل قوى الموازنة إلى قوى قابلة للانضمام .

وهناك احتمالات حقيقية بتغير بنية الحوافز في الدول الصغيرة مثل مولدوفا، وخاصة إذا كان الاتحاد الأوروبي قادراً على المساعدة في بناء قدرات مؤسسية طويلة الأمد . ولكن في أماكن أخرى من المنطقة، يتعين على الاتحاد أن يدرك واقع كل من ألعاب التوازن على حِدة، وأن يعمل في حدود الممكن من أجل تعزيز مصالح الاتحاد الأوروبي . فيتعين على الاتحاد الأوروبي أولاً أن يعمل على تطبيق تجربة فنلندا على أوكرانيا، التي أصبحت تتبنى رسمياً الآن سياسة عدم الانحياز الأشبه بسياسة تيتو . وتوسع حلف شمال الأطلسي ليس مطروحاً الآن . إن يانوكوفيتش يميل باتجاه روسيا في الأمد القريب، ولكنه بلغ بالفعل النقطة التي بات عندها في احتياج إلى قوى أخرى لموازنة روسيا . وبوسع الاتحاد الأوروبي أن يتقبل القيود التي تفرضها السياسة الخارجية لأوكرانيا، في حين يركز على مساعدتها في تحويل بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، والحفاظ على ديمقراطيتها .

والاستراتيجية الثانية تتلخص في تطبيق التجربة الصربية على جورجيا . فكما هي الحال مع صربيا وكوسوفو، لابد من تشجيع جورجيا، إن لم يكن على التخلي عن أقاليمها المتمردة، فعلى الأقل هجر ذلك النوع من السياسات القدرية التي تضع كل شيء في مرتبة ثانوية تالية لاستعادة الأراضي المقدسة، الأمر الذي من شأنه أن يسمح للبلاد بالتركيز على الإصلاح الداخلي .

وأخيراً، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعمل على تطبيق التجربة الفرنسية على بيلاروسيا . إن الانفتاح السياسي هناك ليس مرجحاً الآن، كما كانت الحال في الأيام الأخيرة للدكتاتور في إسبانيا . ولكن النموذج الاقتصادي الذي تتبناه بيلاروسيا غير قادر على البقاء والاستمرار، حيث من المتوقع أن يتجاوز العجز التجاري 7 مليارات دولار (14% من الناتج المحلي الإجمالي) هذا العام . ولن تتمكن بيلاروسيا من اقتراض ما يكفي لتغطية هذا العجز . وكما كانت الحال في إسبانيا تحت حكم فرانكو، فإن اقتصاد بيلاروسيا كذلك قبل أن يتغير لوكاشينكو، وهو ما من شأنه أن يرسي الأساس للتنمية السريعة بمجرد رحيله .

** كبير زملاء السياسات لدى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية . والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"