"الأرزاق بيد الله"

05:00 صباحا
قراءة 4 دقائق

فجأة وبلا أية مقدمات وجد السودان نفسه في دائرة الضوء العالمية، وطبيعي أن يبدأ الشعاع من العاصمة الأمريكية واشنطن. ليس هذا فحسب، ولكن العنصر الأمريكي في الشأن السوداني كان مزدوجاً ومؤلماً ومخادعاً وهذا هو الأصعب. لأنه تحدث عن عقوبات واستمرارها لتنتكس بذلك الآمال التي حلمت بها الخرطوم، والتي قد تدفع نحو تدشين مرحلة جديدة من الوئام في ظل رئيس جديد غير جورج بوش.

والضربات لا تأتي فرادى، فمع الخداع الأمريكي حسب الوصف السوداني، كان هناك التلميح والتصريح من قادة الجنوب بأن الوحدة لم تعد خياراً مقبولاً لدى الجنوبيين، لماذا؟ هذا لأسباب كثيرة، منها ما ذكره نائب الرئيس السوداني سيلفا كير زعيم الحركة الشعبية للتحرير بأنه سيدعو الجنوبيين إلى التصويت لمصلحة استقلال جنوب السودان خلال الاستفتاء المقرر في يناير/ كانون الثاني ،2011 وقوله أيضاً أن بقاء السودان موحداً سيجعل الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثانية. ثم إن بقية الأسباب التي يتذرع بها الجنوبيون كثيرة ولكن لا داعي للتركيز عليها، لأن العنصر الأمريكي في وقتنا الراهن هو الأهم، رغم أن تحركات الجنوبيين تمثل خطورة حقيقية على مستقبل السودان الموحد.

التدخل الأمريكي أصبح أمراً واقعاً، خاصة في ضوء ما ذكره الرئيس الأمريكي باراك أوباما من أن السودان يمثل أولوية لإدارته مع تعهده الصارم باتخاذ إجراءات سريعة. ولذا، فقد حدد أوباما ثلاثة أهداف لتنفيذ سياساته حيال الخرطوم. ولم يكن في حاجة لتحذير السودان بأن الوقت ضيق، فمجرد إعلانه استراتيجيته تجاه هذا البلد العربي كان كفيلاً بالوعيد. وتركزت أهداف أوباما في الآتي:

السعي لإنهاء النزاع في دارفور. وهنا أرفق أوباما كلمة إبادة وهو الوصف الوحيد الذي يرهق الخرطوم ويؤرق مضاجعها، خاصة أنها اجتهدت كثيراً من أجل إلغاء هذا الوصف من أجندة دارفور. حتى إن الخرطوم نجحت في جعل هذا الوصف محل نقاش وجدل داخل الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش.

تطبيق اتفاق السلام بين الشمال والجنوب من أجل خلق امكانية لنشر السلام في كل ربوع السودان. وقد استخدمت الإدارة الأمريكية هذا الهدف بعد أن استبعدته من أجندتها لفترة طويلة خاصة بعد اندلاع النزاع في إقليم دارفور ومحاولة واشنطن والغرب إنهاء الحرب الأهلية في هذا الإقليم المشتعل.

ونأتي للهدف الثالث وهو يؤرق إدارة أوباما، خاصة بعد توتر الأوضاع وتراجع الأمن في الصومال وانتشار القاعدة هناك وتشكيل مليشيات كثيرة في الأراضي الصومالية تسبب توتراً للمجتمع الدولي. والهدف هو العمل على ضمان عدم تحويل السودان إلى مأوى للارهابيين الدوليين. هذا عن الأهداف التي أعلنها أوباما، ولكن أين الخديعة؟ الخديعة هي أن كلام أوباما انطوى على تجديد العقوبات الاقتصادية على حكومة الخرطوم تحت ذريعة أن تحركات السودان وسياسته معادية للمصالح الأمريكية وتشكل تهديداً دائماً وغير مألوف للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. الغريب أن أوباما كان تعهد للسودان بتبني جملة من الحوافز، وسرعان ما تراجع عنها وارتأى تجديد العقوبات على الخرطوم وسيلة لردعها، مع إبداء كلمات رنانة بشأن مراجعة الموقف إذا عملت حكومة السودان لتحسين الوضع على الأرض ودعمت السلام في دارفور.

من الخطأ أن تثق حكومة الخرطوم في واشنطن، خاصة أن التجربة تؤكد أن الولايات المتحدة تتخذ من العقوبات استراتيجية دائمة تجاه من تراهم خصوماً.

بيد أن الملاحظ أن الادارة الأمريكية سنَّت رؤية مختلفة نوعاً ما هذا العام، وهي عدم الحديث عن فرض منطقة حظر طيران فوق دارفور. وتخلت أيضاً عن التهديد بالتدخل العسكري كما كانت تفعل من قبل. ومجرد هذا الموقف الأمريكي وجد ترحيباً من الخرطوم، وتحديداً من غازي صلاح الدين مستشار الرئيس عمر البشير ومسؤول ملف دارفور. فقد رأى أن الأمريكيين تخلوا عن بعض الأفكار القديمة، وأن الأمريكيين باتوا يتحدثون بلغة رجل واحد في الوقت الراهن. ويقصد غازي صلاح الدين هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية والجنرال سكوت جريشين مبعوث أوباما للسودان، وذلك بعكس اللهجة الأمريكية السابقة، حينما كان يتحدث كل مسؤول بلهجة مختلفة عن الآخر.

الجديد في الأمر أن من أشد المؤيدين لهذه الدعوة بل الداعية الرئيسية لها، هي سوزان رايس سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، التي تشكل ضلعاً مهماً في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية والتي ترفض الآن أن يتحدث أي مسؤول أمريكي أو يتفاوض مع الرئيس عمر البشير، وإن لزم الأمر، يكون مع مساعديه. وحجتها في ذلك، أنه شخص مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية.

وعلى عكس موقف غازي صلاح الدين، شن مصطفى إسماعيل مستشار الرئيس البشير وصاحب الخبرة الطويلة كوزير خارجية سابق، هجوماً مريراً على الإدارة الأمريكية التي وصفها بأنها تتخذ مواقف غير عادلة، خصوصاً تجاه القضايا العربية، وأن واشنطن لا تصلح للقيام بمهمة الوسيط النزيه، لأنها تعمل على اشعال البلاد وزعزعة الاستقرار فيها بعكس ما تدعي وتقوله من أنها تمارس وساطة إيجابية في مشاكل السودان.

وبعد كل ذلك، ليس أمامنا سوى ذكر موقف الرئيس السوداني عمر البشير من الاستراتيجية الأمريكية حيال بلاده وخصوصاً مسألة العقوبات الاقتصادية، فما كان منه سوى القول: لا ننتظر رزقاً من أمريكا أو بريطانيا، فالأرزاق بيد الله.

كاتب بحريني

E-Mail:[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"