الحيرة الأمريكية في التعامل مع بوتين

02:00 صباحا
قراءة دقيقتين
د. عمر عبد العزيز

منذ أن تخلى الرئيس الروسي السابق يلتسين عن السلطة طواعية وهو يترنح تحت وطأة المرض والعبثية الحياتية الأبيقورية.. منذ تلك اللحظة بدا يلتسين محبطاً ومطارداً بتبكيت الضمير والشعور بانهيار روسيا، بل الشعور بأنه لعب دوراً في ذلك الانهيار الحر للإمبراطورية السوفييتية ووريثها الأكبر روسيا.
لحظة الصحوة المتأخرة مادت به إلى تصرف سياسي بدا غرائبياً ومفاجئاً كعادته وسيرته المترعة بالمفاجآت والغرائب، فقد جاء بواحد من أكثر ضباط ال «كي جي بي» عصامية وفتوة، ولم يتوقع أحد في أروقة الكرملين أو خارجه أن يسلم يلتسين السلطة لشاب مغمور وغير معروف في الوسط السياسي الروسي العتيد، حتى إن المتابعين افترضوا أن ما فعله يلتسين هو نوع من تخليد الذات وحرمان المنافسين الكبار من أن يكون لهم دور قيادي في مستقبل روسيا.
لقد ترسخت هذه الفرضية في الأذهان، وإن أحداً لم يتصور أن القيصر القادم لروسيا هو الفتي بوتين.. العصامي المتباعد عن الملذات، والصارم في قراراته واستخدامه القيصري للسلطة المتاحة له، والأهم من هذا وذاك تمثله الواعي للمدرسة العسكرية والأمنية السوفييتية، وشعوره القومي الروسي المتقد، واعتقاده الجازم المسبق بأن قدر روسيا الدولي أن تكون القوة الوازنة للقطبية العالمية الجديدة، ولتحقيق رؤاه وأحلامه فوق القومية كان عليه أن يبدأ بتفتيش البيت من الداخل، وأن يقوم بتقويض منهجي لمليونيرات المرحلة الطارئة، وأن يعيد تشكيل الجيش الروسي من خلال إحلال شامل للقيادات والأفراد، وأن ينعش صناعة السلاح الروسي، وأن يقوم بإحياء منهجي لرابطة الدول المستقلة الخارجة من رحم الاتحاد السوفييتي، وأن ينظر بعين الصقر الجارح للمتمردين على المركزية الروسية في رابطة الجمهوريات المستقلة، وفي المقدمة منها جورجيا ومولدوفيا وأوكرانيا، وأن يباشر حلاً راديكالياً للمشكلة الشيشانية التي استعصت على سابقيه.
ومن المصادفات التاريخية التي أنعشت مشروع بوتين القومي تلك الإخفاقات المتتالية للإدارات الجمهورية الأمريكية على خط أفغانستان والعراق، بالترافق مع تزايد ريع النفط والغاز الروسي، وصولاً إلى تركيز السلطة حد التقطير، ما منح بوتين القول الفصل في السياستين الخارجية والداخلية، ومنح المحاربين القدامى الأوفياء للعهد السوفييتي فرصة استعادة الحلم القيصري الآفل، وهكذا سارت سفينة روسيا الجديدة لتسجل الضربة القاضية الأولى في جورجيا، عبر فصل أوسيتيا الشمالية عنها، ثم جاءت الضربة التالية الأكبر عبر ضم جمهورية شبه جزيرة القرم لروسيا، وتعزيز شرق أوكرانيا الباحثة عن حكم ذاتي، وصولاً إلى الحضور العسكري الاستراتيجي في سوريا.
بوتين نموذج للزعيم القومي المقيم في الثقافة الروسية الخاصة، وهو بهذا المعنى شديد الرفض للنموذج الأمريكي.. يؤمن إيماناً تاماً بمركزية دولته الممهورة بالثقافة الروسية ذات النفس القيصري، وبالحكمة الأرثوذوكسية المشرقية، وبقدر كبير من الدأب والتؤدة.
المرجعية الانتربولوجية لروسيا الكبيرة تتأرجح بين الثقافة (الأوراسية) حيناً، والأوروبية حيناً آخر، والسلافية القومية أيضاً، وكل هذه الخصال الإشكالية تنعكس في شخص بوتين الروسي السلافي الأوراسي والأوروبي أيضاً!، ومن هنا وجه الحيرة الأمريكية -الأوروبية في كيفية التعامل معه وفريق عمله المتماهي معه حد التماهي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"