عصر الوحشيّة المبرّرة

03:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

عائشة عبد الله تريم

التعاطف من أعظم فضائل الإنسان الأخلاقية، وهو القوة الكامنة التي تقود إلى تحقيق أسمى الإنجازات البشرية، والذي يؤسس لقيام الروابط العصية على الكسر؛ لكنه اليوم مهدد بالانقراض. والتاريخ يروي لنا الفظائع الرهيبة التي ارتكبها الإنسان التي تصل فظاعة بعضها إلى درجة تتجاوز مقاييس كل المآسي العادية. وعندما يقف المرء في مواجهة هذه المظالم ينسبها إلى شر عظيم، ويتعجب كيف يمكن أن تحدث مثل هذه الكارثة التي يعجز الناس عن وصفها. ولكن الحقيقة المخيفة أن مثل هذه اللحظات حدثت، وما زالت تحدث. فهذه المظالم التي يرتكبها الناس على نطاق واسع لا تقتصر على كتب التاريخ، بل هي جارية في عالمنا نقرأ أو نسمع عنها. ولأنها تحدث في عالمنا وفي وقتنا فقد أصبحنا الأشخاص الذين سيسألنا الجيل القادم كيف صمتنا وغضننا الطرف عن مثل هذه الأفعال.
في هذه اللحظة من الزمن، تحدث عمليات إبادة جماعية متعددة، وغيرها على لائحة الإبادة الجماعية. فظائع التطهير العرقي التي لا يمكن تخيلها في ميانمار، أدت إلى تشريد أكثر من مليون مسلم من شعب الروهينجا بالقوة. تواجه الكونجو واحدة من أكثر الحروب الأهلية دموية، إذ إن شعبها يعيش مع الخوف والعنف والموت غير المنطقي، وقد سميت عاصمة الاغتصاب في العالم. كما وفّرت الحرب السورية ساحة معركة لجميع اللاعبين في العالم، حيث يفرض كل منهم أجندته، مثلما حدث من اضطهاد للإيزيديين على أيدي «داعش»، وكيف سعى الأتراك إلى القضاء على الشعب الكردي. لقد شهدت هذه الحرب المستمرة منذ تسع سنوات الآلاف من المذابح وفرضت الهرب على الملايين، وأثناء بحثهم عن ملجأ، غرقت جثثهم في المحيطات الأجنبية. تقوم الحكومة الصينية بعمليات إبادة جماعية ضد الأويغور المسلمين الذين يقدر عددهم ب 2٪ من السكان، ويبلغ عددهم التقريبي 20 مليون نسمة. يتعرض الأويغور للاعتقال الجماعي في معسكرات الاعتقال، حيث يُجرى غسل دماغهم للتنديد بإيمانهم ومنحهم نقاطاً لأجل «التحول الإيديولوجي». نقرأ كتب التاريخ ونهز رؤوسنا في دهشة بشأن كيفية حدوث الهولوكوست، ومذابح الأرمن، والإبادة الجماعية في رواندا، وكيف جرى النزوح الجماعي لما يقرب من مليون فلسطيني لاجئ بينما ذبحت الميليشيات الصهيونية سكان قرى بأكملها، واحتلت أراضيهم، وفي الوقت نفسه نحن هنا، لكن أين نحن حقاً؟
نحن هنا، في عصر الأقوياء، هذا العصر الذي يكافئ أصحاب ذهنية الغاية تبرّر الوسيلة، حيث تم تقليص سمات مثل التعاطف والرحمة إلى أخرى مثل الضعف والسذاجة. لقد أخذ الرضوخ محل الغضب، واستبدلت مطالب تحقيق العدالة بالهاشتاغات المتصدّرة والصور الموحّدة في الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. في مواجهة هذه الفظائع، نقف في حالة لامبالاة جماعية مبررة بالمنطق الذي يراودنا طوال اليوم. لقد كانت الجرائم ضد الإنسانية ذات مرة سبباً لحركات جماهيرية هائلة، مثل حركة «لن تعود مرة أخرى» التي انطلقت لأجل وضع حد لهذه الفظائع، ورفض السماح للحكومات بارتكابها باسم السيادة، ولإرسال رسالة مفادها أنه لا يوجد أحد فوق القانون. اليوم، في الوقت الذي يحتدم فيه العالم السيبراني بإيديولوجيات ووجهات نظر أخلاقية متحمّسة، تظل الشوارع في غيبوبة لا تردّد شيئاً سوى الصمت.
لا ينشأ الشر من العدم. ففي معظم الأحيان يتغذى من فشل المجتمع في الارتقاء إلى المعايير الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم سلوك المجتمعات وتصرفاتها. ولعل الأمر الذي يتجاوز اللامبالاة في سوئها يكمن في لجوء بعض الجماعات إلى التبرير الواعي للوحشية كجزء من السياسة العامة. وتشتد خطورة الأمر عندما تتخلى المجتمعات عن مسؤوليتها في تعزيز منظومة القيم الأخلاقية وتجعل من الطاعة وإخفاء الرؤوس في الرمال وجهتها الحاكمة لتصرفاتها. وينبغي أن تكون المنظومة الأخلاقية أداة التوجيه الوحيدة الجديرة بالثقة لدى الإنسان، وأن يكون التعاطف الغريزة الطبيعية لوجهة الإنسان والمجتمع التي بدونها سيكون العالم أكثر قتامة ويصبح مكاناً غير لائق للعيش فيه. فالعالم ينبغي أن يمنع المآسي التي يصنعها الإنسان، ويجب ترجمة هذا الغضب إلى ظاهرة عالمية تضم النشطاء والدبلوماسيين وقادة المجتمع المدني، ويجب العمل بالقول والفعل لتحديد الجناة وكشفهم، وإنارة الطريق أمام الأبرياء الذين يتعرضون للاضطهاد، فربما يتم وضع حد لمعاناتهم.
يناضل نشطاء شبان مثل السويدية غريتا ثونبرج (17 عاماً) من أجل بقاء الأرض. لكن ما الفائدة من هذا الكوكب الذي يقوم على سفك دماء الأبرياء، وينتعش من خلال مصائب الآخرين؟ أنقذوا الأشجار والمحيطات والسماء. أنقذوا الكوكب، ولكن قبل كل شيء لا تنسوا إنقاذ روحه فهي التي ستمنع وقوع المآسي والكوارث.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"