مؤامرة الشفافية

03:32 صباحا
قراءة 5 دقائق

كانت واحدة من أكثر نتائج الأزمة المالية الحالية إثارة للانزعاج انهيار الثقة بالمؤسسات الديمقراطية والساسة . ففي عام 2012 سجلت دراسة مسح باروميتر الثقة التي أجرتها شركة العلاقات العامة العالمية إدلمان أكبر انحدار في الثقة على الإطلاق بما يتصل بالحكومة . ولكن هل من الممكن عكس هذا الاتجاه من خلال زيادة الشفافية الشعار السياسي الجديد الذي يتشدق به نشطاء المجتمع المدني وعدد متزايد من الحكومات الديمقراطية؟

الواقع أن الأمل معقود على الجمع بين التكنولوجيات الحديثة، والبيانات المتاحة للجماهير، والمشاركة المتجددة من جانب المجتمع المدني لمساعدة الناس السيطرة بشكل أكثر فعالية على ممثليهم . بيد أن النظر إلى الشفافية باعتبارها وسيلة لاستعادة ثقة الجماهير بالديمقراطية يعتمد على عدة افتراضات مشكوك في صحتها، ويتلخص أكثر هذه الافتراضات أهمية وتأثيراً في اعتقاد مفاده أن مجرد اطلاع الناس على الأمور من شأنه أن يجعل كل شيء مختلفاً .

ولكن من المؤسف أن الأمر ليس بهذه البساطة . ذلك أن نهاية السرية الحكومية لا تعني ولادة المواطن المطّلع؛ ولا يعني المزيد من السيطرة بالضرورة المزيد من الثقة بالمؤسسات العامة . على سبيل المثال، أعاد الناخبون الأمريكيون انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش بعدما أيقنوا أنه قاد الولايات المتحدة إلى حرب ضد العراق من دون دليل على امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل . وعلى نحو مماثل، أبقى الإيطاليون على سيلفيو برسلكوني في السلطة لأكثر من عقد من الزمان على الرغم من فيض متواصل من الفضائح التي كشفت عن آثامه وخطاياه .

إن الاطلاع على كل شيء في عالم السياسة لا يزال يعني التعرف إلى أشياء مختلفة، وهذا يعني بدوره أن إلزام الحكومات بالكشف عن المعلومات لا يعني بالضرورة زيادة المخزون من المعلومات لدى الناس أو توصلهم إلى فهم أفضل . بل إن الأمر على النقيض من هذا تماماً، فبمجرد تصميم المعلومات الحكومية بحيث تصبح مفتوحة للجميع بشكل مباشر، فإن قيمتها كمعلومات تتراجع وترتفع قيمتها كأداة للتلاعب والاستغلال .

ولنتأمل هنا الطريقة التي يتحدث بها رجال العصابات في أفلام الجريمة عندما يعلمون أن الشرطة تتنصت عليهم . إنهم يتحدثون في مواضيع واضحة تافهة في حين يتبادلون المذكرات تحت الطاولة . هذه هي الحكومة في عصر الشفافية .

في دراسته التي تناولت ممارسة البوح بالحقيقة في اليونان القديمة، أشار الفيلسوف ميشيل فوكو إلى أن ممارسة البوح بالحقيقة من غير الممكن أن تُختَصَر في اطلاع المواطن على شيء لم يكن يعلمه من قبل . فمن عجيب المفارقات أن الحقيقة في السياسة شيء يعلمه الجميع، ولكن قِلة من الناس يجرؤون على التعبير عنه .

لا يحتاج الناس إلى معلومات إضافية لكي يدركوا، على سبيل المثال، اتساع فجوة التفاوت وعدم المساواة بين الناس أو سوء معاملة المهاجرين . ولم تنبئنا برقيات ويكيليكس بأي شيء جديد نوعياً عن السياسات الأمريكية .

إن الحياة في الحقيقة من غير الممكن أن تُختَصَر في القدرة على الوصول إلى المعلومات الكاملة . بل إن استعداد الناس لخوض مجازفات شخصية ومواجهة الأقوياء بالجرأة على قول الحقيقة، وليس الحقيقة في حد ذاتها، هو الذي يؤدي إلى التغيير في نهاية المطاف .

والمعلومات، فضلاً عن ذلك، لا تأتي من دون تفسير . فمن خلال قراءة المعلومات نفسها الخام، سوف يستخلص الجمهوريون والديمقراطيون في الولايات المتحدة، أو العلمانيون والإخوان المسلمون في مصر، تفسيرات مختلفة، لأن عملية صُنع السياسات من غير الممكن أن تنفصل عن مصالح صانع القرار وقيمه . وكما عبر عالما الإنثروبولوجيا جان وجون كوماروف عن الأمر، فإننا نعيش في عصر حيث يبدو الناس في كل مكان تقريباً مشغولين في الآن نفسه بالشفافية ونظرية المؤامرة .

ولكي نتعرف إلى مدى غموض سياسة الثقة، فلنتأمل التجربة الروسية الأخيرة . ففي شهر ديسمبر/كانون الأول ،2011 أحدثت الانتخابات البرلمانية انفجاراً مدنياً في البلاد . فقد تدفق مئات الآلاف من الناس إلى شوارع موسكو وغيرها من المدن الكبرى للمطالبة بانتخابات نزيهة واختيارات حقيقية في الانتخابات الرئاسية المقبلة . وبفعل أزمة الشرعية المتصاعدة اضطرت الحكومة إلى اختراع طرق مبتكرة لتبرير سلطتها .

وكان الاقتراح الرئيسي بارعاً: فقد اقترح الكرملين ضمان نزاهة الانتخابات بتركيب كاميرات متصلة بشبكة الإنترنت في كل مراكز الاقتراع؛ وبهذا يصبح بوسع كل مواطن أن يراقب شخصياً عملية التصويت . وكما أوردت وكالة أنباء شين هوا الصينية في تقاريرها بكل حماسة: فمن كامشاتكا إلى كالينينغراد، ومن الشيشان إلى تشوكوتكا، كان بوسع أكثر من 2 .5 مليون شخص من متصفحي الإنترنت أن يسجلوا أنفسهم لمشاهدة بث مباشر من 188 ألف كاميرا على الأقل مثبتة في أكثر من 94 ألف مركز اقتراع على أرض روسيا . وعلى حد تعبير أحد المراقبين الفنلنديين: كان ذلك الحدث بمثابة علامة فارقة في تاريخ الديمقراطية والانتخابات الديمقراطية .

ولكن في نظام مثل نظام فلاديمير بوتين، حيث تقرر الحكومة من الذي يستطيع ترشيح نفسه، فإن المراقبة بالكاميرات تتحول إلى تدبير هزلي، والكاميرات ليست وسيلة مخيفة إلى هذا الحد أيضاً . ففي الغرب نظر المراقبون إلى هذه الفكرة باعتبارها أداة لإبقاء الحكومة تحت السيطرة من خلال تمكين الناس من مراقبة تصرفاتها . ولكن من منظور الناخب الذي يعيش في الريف في بلد يعيش مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، فإن هذه الكاميرات بثت إليه رسالة مختلفة: الحكومة تعرف لمن أدليت بصوتك .

وبشكل ما، كان نجاح بوتين مزدوجاً: فقد بدا شفافاً في نظر الغرب، ومتوعداً مهدداً في نظر أغلب مواطنيه . أي أن تثبيت الكاميرات كان سلوكاً شفافاً وتآمرياً في آن .

وتكمن القضية الأكبر في إصرار دعاة الشفافية على إمكانية التوفيق بين الحكومة المفتوحة وخصوصية المواطنين . ولكن هل تعني الحكومة الشفافة بالكامل مواطناً شفافاً بالكامل؟ كقاعدة، تراقب الحكومات الناس، وعندما تصبح هذه العملية شفافة، فكذلك يصبح هؤلاء المواطنون الذين تحدثوا مع الحكومة أو خضعوا لمراقبتها .

وخلافاً لتوقعات دعاة الشفافية، فإن رفع مستوى الإفصاح عن معلومات الحكومة لا يجعل الخطاب العام أكثر عقلانية وأقل ميلاً إلى جنون الشك والاضطهاد . وإن كان لهذا التوجه أي تأثير، فإنه يغذي نظريات المؤامرة (فليس هناك شيء أكثر إثارة للريبة والشكوك من ادعاء الشفافية المطلقة) . ومن منا يستطيع أن يقول صادقاً إن الحوار العام أصبح أكثر عقلانية وأقل ميلاً إلى جنون الشك والاضطهاد عدما أصبحت حكوماتنا أكثر شفافية؟

إن حركة المطالبة بالشفافية قد تفضي، بدلاً من استعادة الثقة بالمؤسسات الديمقراطية، إلى التعجيل بتحول السياسة الديمقراطية إلى شيء أشبه بإدارة عدم الثقة . وإذا كانت هذه هي الحال، فبوسع المرء أن يتخيل الاستعاضة عن الديمقراطية التمثيلية (النيابية) بأنظمة سياسية تحصر سيطرة المواطن في السلطة التنفيذية .

ليس المقصود من كل هذا إنكار حقيقة مفادها أن فرض الشفافية على الحكومة هدف نبيل . ولكن لا ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا فنتصور أن تحقيق هذه الغاية كفيل باستعادة ثقة المواطنين في مؤسساتهم السياسية .

* رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية في صوفيا، والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"