هل استفادت الدول العربية من الأزمة المالية العالمية؟ (3-3)

03:02 صباحا
قراءة 6 دقائق
لتحقيق نظام دولي تعددي تم تأسيس مجموعة العشرين في عام 2008 لدعم التعاون الاقتصادي الدولي بعضوية 19 دولة والاتحاد الأوروبي حيث يجتمع رؤساء ووزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في تلك الدول مرة كل سنة لتقوية الاقتصاد الدولي والتعاون المتبادل لتحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي، وإعادة هيكلة المؤسسات الدولية المالية، والمملكة العربية السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي تشارك في الاجتماعات إضافة إلى دول عديدة أخرى كالهند والبرازيل والصين وإندونيسيا، وقد اجتمع القادة العشرون لبحث الأزمة المالية العالمية الأخيرة اجتماعات عدة، وكان آخرها في Saint Petersburg في روسيا بتاريخ 5-6/9/2013 وأولها كان في واشنطن في شهر نوفمبر/تشرين الثاني وأكتوبر/تشرين الأول من عام 2008 .
وقد تبنت مجموعة العشرين منذ الأزمة المالية العالمية الأخيرة عدة مبادئ مهمة منها: تقوية الأنظمة المحاسبية والشفافية وتحسين القواعد المنظمة للأسواق المالية، ودعم الثقة في أسواق المال، وزيادة التعاون الدولي بين المشرعين القانونيين وإعادة هيكلة المؤسسات المالية الدولية .
ولمعرفة مدى جدية الأزمة المالية العالمية الحالية فقد انتهى اجتماع المؤتمر الاقتصادي العالمي الأخير في Saint Petersburg من دون إيجاد حلول للأزمة أو الإجابة عن العديد من الأسئلة التي أثيرت في المؤتمر، وكما علق أحد المشاركين في المؤتمر بأن المناقشة كلها كانت تتركز على ضرورة إيجاد حلول أو عمل شيء معين وبأقصى فترة ممكنة ولكن لا أحد يعرف ما يتعين عمله . وركز الاجتماع الأخير لمجموعة العشرين على أهمية إيجاد وظائف وتبني سياسات استراتيجية لدعم النمو الاقتصادي والالتزام بتطبيق القواعد المالية الطموحة والعمل معا لمكافحة التهرب الضريبي وتغيير القوانين الضريبية والحيلولة دون تبييض الأموال، وقد لعبت مجموعة العشرين دوراً جوهرياً في ضمان تطابق السياسات الاقتصادية الداخلية مع القواعد الاقتصادية الدولية، ووضعت المجموعة برنامجاً لإدارة المخاطر الاقتصادية المالية .
وعلى الرغم من نجاح مجموعة العشرين جزئياً في إدارة الأزمة المالية الأخيرة وإعادة الاستقرار للنظام المالي العالمي وتفادي حدوث حالة كساد وقيام صندوق النقد الدولي بالعديد من المبادرات التنموية لتقوية الرقابة والتحليل الدقيق للمخاطر الموجودة في السياسات المالية وتبني إطار قانوني للمراقبة والإشراف في النظام المالي العالمي فإن من الممكن القول إن مجموعة العشرين لم تنجح في تحقيق الأهداف التي أسست من أجلها، حيث إن الدول الأعضاء في المجموعة لم تتفق على اتخاذ سياسات مالية مشتركة، ففي الوقت الذي ترى بعض الدول من ضمنها الولايات المتحدة ضرورة زيادة التحفيز المالي ترى ألمانيا والمملكة المتحدة ضرورة التقشف، وفشلت المجموعة أيضاً في المساعدة على حل مشكلة بعض الدول الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة، حيث إن خروج أي دولة من الكارثة التي واجهتها تبدأ بالاستقلال بقراراتها من منظورها الخاص، ومع ذلك فإن لمجموعة العشرين أهمية كبيرة للاقتصاد العالمي لعدم استطاعة أية دولة منفردة اتخاذ سياسات تتعلق بالسياسات الاقتصادية الدولية، وإن عدم استقرار الاقتصاد العالمي يؤثر في معظم الدول، مع الاقتراح بضرورة مساهمة الدول الأعضاء الجدد كالصين والهند والمملكة العربية السعودية من المشاركة الفعالة في قرارات المجموعة وفي المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي حيث يتعين على الأخير أن يقوم بدور إدارة مركزية عالمية لمواجهة الأزمات المالية في المستقبل وذلك عن طريق التنسيق مع المصارف المركزية في دول عديدة ما يترتب عليه التقليل من الخسائر المحتملة في المستقبل .

خلاصة

لا شك في أن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة سببها انطلاق الولايات المتحدة الأمريكية من دون رادع بخلق سوق دولي واحد ونظام مالي موحد وقواعد أمريكية تحقق السيطرة الكاملة على النظام المالي الدولي، وداخلياً الاقتراض من دون ضمانات جوهرية، وتعمق الفساد في المؤسسات المالية الأمريكية ما أدى ليس إلى انهيار النظام المالي الأمريكي فقط بل إلى انهيار الدول المرتبطة به أيضاً . وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء البريطاني حين قال إن "الاستهتار داخل الولايات المتحدة بالنظام المالي هو الذي أدى إلى أزمة الائتمان المالي التي يعانيها العالم"، وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا السياق إن "هذا لم يعد انعداماً للإحساس بالمسؤولية من جانب بعض الأفراد، بل عدم إحساس بالمسؤولية لدى النظام كله الذي يتباهى بالزعامة العالمية" .
إن الأزمة المالية العالمية والاقتصادية الحالية هي الأولى من نوعها، ومن الجسامة بحيث من الصعب على أي حكومة بما فيها حكومة الولايات المتحدة أن تضع أية حلول لها، وأن التحركات والمحاولات التي ستقوم بها الحكومة الأمريكية سوف يشوبها التخبط ولن توقف ارتفاع مستوى البطالة ولا إيقاف إفلاس العشرات من الشركات الكبيرة ومحال التجزئة وكذلك المؤسسات المالية والبنوك م ا يجعل من الصعب أن تخرج الولايات المتحدة من هذه الأزمة سالمة، ويجعل من الصعب على دول العالم الثالث وغيرها من الدول إعادة الثقة في النظام المالي الأمريكي من قبل الحكومات ومن قبل الدائنين الأجانب للحكومة الأمريكية بسبب تفاقم دين الحكومة الأمريكية ما يكون له أثر سلبي للغاية على الاقتصاد الأمريكي ككل .
إن عمليات الاحتيال في وول ستريت كانت وما زالت وستستمر في المستقبل ما يستدعي قيام القطاعين العام والخاص في الدول العربية بالتقليل قدر الإمكان من الارتباط مع النظام المالي الأمريكي، وكما قال الدكتور عبد الحي زلوم في كتابه: "أزمة نظام الرأسمالية والعولمة في مأزق"، الذي نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقتطفات منه بعد حدوث الأزمة المالية "بأن التاريخ قد أثبت بأن مالكي وول ستريت يعتبرون القديم جديداً والجديد قديماً، فاللعبة هي ذاتها دائماً، ولو قمنا بتغيير التاريخ وبعض الأسماء فلن يعرف أحد ما إذا كانت عملية الاحتيال قد تمت في هذا القرن أو القرن الذي سبقه وحتى عمليات الاحتيال والخداع هي ذاتها دائماً، وهذا ما يجعل الانحلال الأخلاقي جزءاً لا يتجزأ إلى جانب الفضائح من ثقافة ومحاولات وول ستريت وبارونات الأموال اللصوص" .
إن الأزمة المالية الحالية والناتجة عن ما تعرض له القطاع المالي الأمريكي التي كانت أكبر سوق لاستقطاب رؤوس الأموال أثرت بشكل متفاوت في اقتصاديات العالم بأسره لتشابك العلاقات المالية الدولية، بحيث يصعب في الوقت الحالي إدراك كافة الأبعاد الحقيقية للأزمة من دون الإمكان التحكم في مساراتها وإيجاد حلول مناسبة لها لأن الأزمة أصعب بكثير من قدرة أصحاب القرار .
كذلك، فإن الدولار الأمريكي في النظام المالي العالمي أصبح مصدراً من مصادر الاضطرابات المالية والاقتصادية التي تعاني منها الولايات المتحدة بعد أن كان الدولار أداة من أدوات الاستقرار العالمي ما يتطلب فك الارتباط بالدولار الأمريكي بأسرع فرصة ممكنة من قبل الدول العربية ضروري للغاية لتنجو بنفسها قبل أن تغرق معها أكثر وأكثر، حيث من المتوقع أن ينخفض سعر صرف الدولار الأمريكي بدرجة كبيرة في ظل التخبط والمحاولات التي ستقوم بها الحكومة الأمريكية لحل الأزمة المالية التي تواجهها .
وهذا بالفعل ما طالب به الدكتور رضا عبدالسلام المستشار الاقتصادي لصندوق التنمية الصناعية السعودي في المؤتمر العلمي الدولي الرابع الذي نظمته أكاديمية شرطة دبي في بحثه الذي قدمه بالمؤتمر بتاريخ 16-3-2009 أكد ضرورة الخروج من عباءة الدولار كخطوة أولى للحد من تداعيات الأزمة المالية الراهنه داعياً الدول النفطية إلى التخلي عن عهدها بتسعير النفط بالدولار وابتكار آلية حديثة لا يكون للدولار فيها تأثير واضح . . ." .
وحيث إن من ضمن الأسباب التي أدت إلى خسائر بعض الدول العربية من الأزمة المالية العالمية الأخيرة هو الحصول على تمويل مشروعات التنمية من أسواق المال الدولية واستثمار الفائض من أسعار النفط في مشروعات في دول كانت مركزاً للأزمة المالية من بينها السوق المالي الأمريكي ما أثار تساؤل العديد من المحللين الاقتصاديين عن احتمالات قوية لوجود مؤامرة على الاستثمارات العربية في الخارج للحيلولة من دون الاستفادة منها في العالم العربي، ما يقتضي إعادة النظر في الأماكن التي يستثمر بها من قبل القطاعين العام والخاص والاستثمار في دول عربية وفي مجالات تكون المخاطرة فيها أقل بكثير من الاستثمار في دول أخرى وبالذات الاستثمار في سندات خزانة في أسواق المال الأمريكية .
ومع ازدياد اتخاذ العديد من الدول الإجراءات الحمائية لمنتجاتهم المحلية ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وهو جزء من خطة الإنقاذ الأمريكية الأخيرة التي تلزم المؤسسات الأمريكية بشراء منتجات وبضائع أمريكية، فإن ذلك يتطلب تعاوناً أكبر بين الدول الخليجية أولاً ومن ثم الدول العربية لاتخاذ إجراءات موحدة؛ لمعالجة الأزمة المالية الحالية وللتعاون معاً من أجل اتخاذ إجراءات حمائية معينة لحماية منتجاتها المحلية وايجاد قواعد للحفاظ على التوازن المحلي والخارجي للتقليل من المخاطر المالية والاقتصادية ووضع الدروس أعلاه إلى سياسات عملية وايجاد خطط مدروسة لمواجهة أي أزمة مماثلة في المستقبل والتقليل من آثارها وذلك بالعمل دائماً على استقرار الوضع المالي وخفض نسبة التضخم إلى أدنى المستويات قدر الإمكان وأن تكون ديونها المحلية والخارجية تحت السيطرة .
في الختام أقول: إن التاريخ قد أثبت بصورة لا تقبل الشك بأن الدول التي لديها مخططات واضحة ومحددة مقرونة بإيمان قوي بالقدرة على تنفيذ تلك المخططات هي التي تستمر في البقاء من دون توقف، وآمل بصدق أن تكون الأزمة المالية الحالية دافعاً وأساساً قوياً للتكامل الاقتصادي العربي الذي طولب به على مدى سنين طويلة لما في ذلك التكامل من فائدة على كافة الدول العربية ويقلل من أية أخطار مستقبلية قد يشهدها النظام المالي العالمي في المستقبل . .

* دكتوراه في قانون التجارة الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"