الإمام أحمد بن حنبل.. الثابت في الفتنة

قامات إسلامية
01:42 صباحا
قراءة 5 دقائق
بقلم: محمد حماد

لا شك أنه واحد من حراس العقيدة، ومن أئمة الهدى، فقد نصح للحكام ولاذ به الناس حين كثرت الفتنة، وامتلك شجاعة في الرأي محمودة، ودونت له كتب التاريخ صفحات من المجد لا تمحوها الأيام، ولعل أبرز ما يجعله ضمن قائمة المجددين في الإسلام أنه أحيا ما كان السلف الصالح عليه من الشجاعة في الحق، وقد أثبتت مواقفه وسيرته أنه أخذ نفسه طوال حياته على التمسك بالقرآن والسنة النبوية، وما كان عليه صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إمام أهل السلف، لم يخشَ في الله لومة لائم، وقد ورث عنه أتباع مذهبه من بعده هذه المواقف.
هو أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، من بيت كريم من بيوت بني شيبان في بغداد، قال ابن الأثير: «ليس في العرب أعز داراً، ولا أمنع جاراً، ولا أكثر خلقاً من شيبان»، وُلد في (ربيع الأول 164ه نوفمبر 780م)، وشاء الله ألا يرى الوالد رضيعه؛ فقد توفي قبل مولده، فتكفلت أمّه برعايته وتنشئته، وحرصت على تربيته كأحسن ما تكون التربية، وعلى تعليمه فروع الثقافة التي كانت سائدة، فحفظ القرآن الكريم، وعندما تجاوز الخامسة عشرة من عمره بدأ في طلب العلم.

المشغوف بالحديث

تتلمذ، أول ما تتلمذ، على يد الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة النعمان، ومن كبار المذهب الحنفي الذي يقف على رأس أئمة الرأي، وكانت حلقته آية في السمو والرقي، يؤمها طلاب العلم والعلماء والقضاة على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وقد لزم أحمد بن حنبل حلقة أبي يوسف أربع سنوات، وكتب ما سمعه فيها ما يملأ ثلاثة صناديق، ثم استهواه أكثر طلب الحديث، فتحوَّل إلى مجالس الحديث، وأعجبه هذا النهج، وانكبّ على طلب الحديث في نهم وحب، وقد لزم حلقة هشيم بن بشير السلمي شيخ المحدثين في بغداد، وكان يسرع الخطى إلى شيخه قبل أن يسفر الصباح؛ حتى يكون أول من يلقاه من تلاميذه، ولا يسمع بعالم ينزل بغداد إلا أقبل عليه وتتلمذ له.
بعد ذلك أخذ الإمام أحمد يرتحل في طلب الحديث النبوي حتى ذهب إلى مكة والمدينة والحجاز واليمن والعراق وفارس وخراسان والجبال والأطراف والثغور، والتقى خلال هذا الترحال الشافعي في أول رحلة من رحلاته الحجازية في الحرم، وأُعجِبَ به، وأخذ عنه الفقه والأصول، وكان يقول عنه الإمام الشافعي: «ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي»، وقد حيل بين أحمد ومالك بن أنس، فلم يوفَّق للقائه، وكان يقول: «لقد حُرِمتُ لقاء مالك، فعوَّضني الله عز وجل عنه سفيان بن عيينة».

تصنيف الفقه الحنبلي

جلس الإمام أحمد للفتيا والتدريس في بغداد سنة (204ه 819م) وهي السنة التي توفي فيها الشافعي فكان خلفاً عظيماً لسلف عظيم، وكان له حلقتان: واحدة في بيته يقصدها تلاميذه النابهون، وأخرى عامة في المسجد، يؤمها المئات من عامة الناس وطلاب العلم، وتُعقد بعد صلاة العصر، وكان الإمام يهش للذين يكتبون الحديث في مجلسه، ويصف محابرهم بأنها سُرُج الإسلام، ولا يقول حديثاً إلا من كتاب بين يديه، مبالغة في الدقة، وحرصاً على أمانة النقل، وهو المشهود له بأن حافظته قوية واعية، حتى صار مضرب الأمثال.
لم يدون الإمام أحمد مذهبه الفقهي، ولم يصنف كتابا في الفقه، أو يمليه على أحد من تلاميذه، بل كان يكره أن يُكتب شيء من آرائه وفتاواه، حتى جاء أبو بكر الخلال المتوفى سنة (311ه 923م) فتولى مهمة جمع الفقه الحنبلي، وكان تلميذاً لأبي بكر المروزي، وجاب الآفاق يجمع مسائل الإمام أحمد الفقهية، وما أفتى به، فتيسرت له منها مجموعة كبيرة لم تتهيأ لغيره، وصنفها في كتابه: «الجامع الكبير» في نحو عشرين مجلداً، وجلس في جامع المهدي، ببغداد يدرّسها تلاميذه، ومن هذه الحلقة انتشر المذهب الحنبلي، وتناقله الناس مدوناً بعد أن كان روايات مبعثرة.
وجاء من بعده علماء كثيرون صنفوا في فقه المذهب الكثير من المصنفات، وفد اعتمد فقه ابن حنبل على النص القرآني والنبوي بشكل رئيسي، وكان يرد على من يأخذ بظاهر القرآن ويترك السنة بأن تفسير القرآن الكريم يأتي من خلال السنة، ثم يأخذ بعد ذلك بأقوال الصحابة وفتاواهم، ويأخذ بعد ذلك أحياناً بالقياس والإجماع، وقد تشدد المذهب الحنبلي في بعض المسائل، إلا أنه يعد أوسع المذاهب الإسلامية في إطلاق حرية التعاقد، وفي الشروط التي يلتزم بها الطرفان؛ لأن الأصل عند الإمام أحمد هو جعل معاملات الناس على أصل الإباحة حتى يقوم دليل شرعي على التحريم؛ ومن ثمّ كان في الفقه الحنبلي متسع لنظام المعاملات، يمتاز بالسهولة واليسر وتحقيق المصلحة للناس.

محنة «خلق القرآن»

تعرض الإمام أحمد لمحنة شديدة، وهي المحنة المعروفة باسم «فتنة خلق القرآن»، حيث قالت فرقة المعتزلة: إن القرآن مخلوق، وكان ذلك في عهد الخليفة العباسي المأمون، الذي قرب إليه بعض أئمة المعتزلة، وقد بدأت المحنة في عام 218ه، حيث أمر المأمون إسحق بن إبراهيم، قائد شرطة بغداد، بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين، ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، ويقرأ عليهم خطاب الخليفة المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد لمن يرفض القول بخلق القرآن، وفي هذا المجلس، وهو الأول، رفض البعض وقبل البعض، وهو ما أغاظ المأمون الذي طلب من قائد الشرطة عقد مجلس آخر، وأن يشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل أجاب كل العلماء ما عدا أربعة، وتحت التعذيب تراجع اثنان منهم، وثبت الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فطلب المأمون حملهما مقيدين بالأغلال إلى حيث يقيم آنذاك في مدينة طرسوس وأقسم أن يقتلهما، إن استمرا على موقفهما.
قبل أن يصل الإمام أحمد إلى طرسوس مات الخليفة المأمون، وعلى الرغم من ذلك فقد استمرت المحنة في عهد الخليفة المعتصم، وأصبح الإمام أحمد وحده بعد وفاة زميله في المحنة محمد بن نوح تحت وطأة التعذيب والسجن، وأمر المعتصم بحبس ابن حنبل في سجن ضيق مظلم والقيود في يديه، وفي السجن أجريت له مناظرات عدة مع أئمة المعتزلة في محاولة لإثنائه عن رأيه، لكنهم فشلوا في ذلك، ثم أجريت معه مناظرة علنية في شهر رمضان بحضور الخليفة المعتصم وكبار رجال الدولة الذين حاولوا استمالته للرجوع عن رأيه، لكنهم فشلوا في ذلك، وهو ما دفع بأحد مناظريه، وهو أحمد بن داود لأن يفتي المعتصم بأن ابن حنبل ضال وكافر ومبتدع ويجب قتله، وبعد استمرار المناظرة لثلاثة أيام متوالية والفشل المتوالي في إقناع الإمام بالعدول عن رأيه، أحضرت السياط وشد الإمام على العقابين، وهما خشبتان يشد الرجل بينهما للجلد، وجلد الإمام أحمد جلداً شديداً، وعذب وأهين وهو ثابت على رأيه لا يغيره، وحين أغمي على الإمام من شدة التعذيب والضرب بالسياط، أطلق المعتصم سراحه خوفاً من موته تحت التعذيب.

عزلة إجبارية

خرج الإمام إلى بيته لتلقي العلاج، ومات الخليفة المعتصم، وولي مكانه ابنه الواثق، وكان من أشد الناس في القول بخلق القرآن، لدرجة أنه أمر بالتفريق بين الرجل الذي لا يقول بخلق القرآن وبين زوجته، وأرسل الواثق لابن حنبل يأمره بالخروج من بغداد: «لا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكنّي بأرض ولا مدينة أنا فيها»، وظل الإمام هكذا بضعة أشهر لا يخرج لصلاة في المسجد، ولا يلقي دروسه حتى مات الخليفة الواثق عام (231ه) وجاء بعده الخليفة المتوكل الذي أبطل هذه المحنة، ورفع الاختبار فيها، وحاول كثيراً استمالة ابن حنبل للعمل معه وتعليم ولده، لكنه رفض بشدة.
بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال توفي الإمام أحمد في (ال 12 من ربيع الآخر 241ه 30 من أغسطس 855م) عن سبعة وسبعين عاماً، ودُفن في بغداد، وخرج في جنازته ما يزيد على ثمانمئة ألف من الرجال وستين ألفاً من النساء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"