ذاكرة الشعر الإماراتي المسموع

تجارب المطربين الرواد في انتشار القصيدة الشعبية

03:55 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج

عاش الفنان جابر جاسم مسكونا بالبحث عن الجديد، فهو حين بدأ مشواره الفني من خلال البحث عن اللون الخاص، وجد نفسه بعد فترة ميالاً إلى التجديد الذي يقوده إلى تأسيس الأغنية الحديثة المواكبة لمثيلاتها في البلاد العربية، من هنا بدأت رحلة الريادة من أبوظبي إلى الإذاعات والمهرجانات العربية، حتى أصبح يمثل صوت الإمارات الأول برصيد بلغ نحو تسعين أغنية في ثلاثة عقود .

كان ذلك في بدايات حقبة السبعينات من القرن الماضي، وبالرغم من أن الساحة الفنية الإماراتية شهدت العديد من الأصوات التي سبقت جابر جاسم، لكن لهذا الفنان ميزة مختلفة من حيث التأسيس الفني، فهو ذو مراحل ثلاث كانت الأولى تقليدية شعبية والثانية مع الفرق الموسيقية والثالثة مع الألحان الجديدة والمهرجانات الخليجية والعريبة، ونحن هنا نتحدث عن الأغنية بشكلها الحديث من خلال فنية اللحن والأداء ومصاحبة الفرقة الموسيقية، حيث إن الأغنية الشعبية التراثية كانت سائدة في المنطقة عموماً منذ أكثر من مئتي سنة من خلال الألوان البيئية ذات الابتكارات الفطرية، ففي الصحراء كانت هناك ألوان معروفة بالتغرودة والونة والرزفة والعيالة وغيرها من فنون الأداء الفردي أو الجماعي، بينما في الساحل حيث ثقافة البحر وظروف الحياة بالقرب منه فهناك النهمة والألوان الصوتية المعروفة بالمواويل والمختلطة بين جميع مناطق الساحل على امتداده شمالا وجنوبا . . لكن السؤال هو كيف كان المشهد الغنائي في الإمارات، قبل ظهور تجربة الفنان جابر جاسم؟ أي في الخمسينات وبدايات الستينات؟

منذ مئات السنين كانت أبوظبي بسواحلها ومناطقها الشرقية والغربية تكتب الشعر وتغني . . . تلك طبيعة الحياة دونما شك، وتلك أيضا أصوات الأرض التي تختلف من مكان إلى آخر بحسب التضاريس والمناخ والمهن، وإذاً فإن التغرودة والونة والنهمة وغيرها من ألوان التعبير كانت سائدة هنا وكان فرسانها الشعراء وصوت الفطرة . . لكن هذه الحال لن تستمر ولابد من زمن جديد تدخل فيه التعابير مرحلة أخرى هي اليوم الأغنية .

في عام 1944 كان حارب حسن في طريقه إلى مدينة العين، ومنها بعد فترة إلى أبوظبي بحثا عن فرصة لممارسة موهبة الغناء على الطريقة التقليدية في ذلك الوقت، واستمرت المحاولات حتى أواخر الخمسينات حين استطاع حارب حسن أن يسجل أغنيته الأولى ولكن على آلة العود والإيقاع وهي الطريقة السائدة آنذاك، وكانت القصيدة للشاعر ماجد بن علي النعيمي وهي مهداة إلى الشاعر راشد الخضر ومطلعها:

يا حبيب القلب عذبت الحشا

وانقضت الايام عنا والدهور

هذه القصيدة غناها في ما بعد الفنان علي بالروغة وأدخل عليها عدداً من الأبيات كان الشاعر راشد الخضر قد رد بها على الشاعر ماجد بن علي النعيمي فجاءت الأغنية الثانية مزيجا من قصيدتين وهذه من التصرفات الفنية الجميلة التي نادرا ما تحدث، ومن القصيدة الثانية للشاعر راشد الخضر:

حي جيلك عد ما مزن نشا

واعشبت أرض محيلة بالمطور

وبعد هذه الأغنية بدأت التجربة تتوسع حتى غنى حارب حسن ثلاث أغنيات دفعة واحدة من أشعار سالم الجمري، منها قصيدة شهيرة كتبها الجمري في رثاء زوجته تقول :

لعى الجمري على فرقا ظنينة

كما تلعي زليخة على الغلام

هنا انتهت مرحلة الخمسينات ودخلنا في الستينات وكانت هذه التجارب وغيرها قد مهدت لظهور تجارب جديدة ولكن داخل المشهد التقليدي الذي يقوم على آلتي العود والإيقاع في غياب أي فرقة موسيقية بالمعنى الحديث ومن هذه التجارب كانت الأغنية الأولى للفنان علي بالروغة في أواسط الستينات وكانت بعنوان (عزيزة) وهي من كلمات الشاعر سعيد بن عمير، الذي كان من جيل شعراء الأغاني المعروفين في ذلك الوقت ومنهم أحمد الكندي، عتيق بن محمد، خليفة بن مترف، سالم الجمري، محمد بن سوقات، بن زنيد، وغيرهم الكثير رغم تفاوت الفترات الزمنية بينهم من ناحية الظهور والانتشار .

لقد اشتهر حارب حسن (قبل أن يعتزل بسبب إصابته بمرض الربو) بالعديد من الأغنيات الشائعة والتي كانت تبث من إذاعة لندن ضمن زاوية الاختيارات من كل بلد عربي، ومنها: البارحة ياما جرالي، أسمر حبيب الروح، يا قلب يا ولهان، يا عيني لك الله، أمس العصر، يا بوعلي، وقلبي مولع وغيرها .

كانت هناك تجارب عديدة في مضمار الأغنية قد ظهرت في هذه الأثناء مثل الفنان محمد سهيل (والذي عرف بأنه فنان سعودي بسبب إقامته الطويلة في الدمام لكنه ابن الإمارات الذي فتح ذراعيه لكل من يطلب مساعدته من أبناء بلده خاصة في المجال الفني وأسس شركة تسجيلات فنية في الدمام ثم انتقل إلى دبي، وكان شاعراً وملحناً ومطرباً) وموزة سعيد وموزة خميس وصولا إلى ميحد حمد وعبد الله بالخير وعبد الله حميد وأسماء أخرى كانت تظهر وتختفي ولكنها لم تصل إلى طبيعة تجربة الفنان علي بالروغة التي تحققت بشكل واسع في ستينات القرن العشرين مع الشاعر سالم الجمري، وهذه التجربة وغيرها شكلت الأساس لما سيأتي من تجارب جديدة منها تجربة الفنان جابر جاسم .

ومنذ بداية حقبة الستينات حتى العام 1967 كان جابر جاسم يبحث عن فرصة تناسب تلك الأيام الخالدة في تاريخ إمارة أبوظبي لتقديم أغنية وطنية بمناسبة عيد الجلوس للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ولم تكن هناك فرقة موسيقية فأشار عليه أحد أصدقائه بأن يذهب إلى فرقة الشرطة الموسيقية، وهناك التقى بالرائد اسحق مدير الفرقة وتدرب معه على الأغنية ونجحت .

بعد أغنية عيد الجلوس بعام واحد عمل موظفا في الإذاعة بوظيفة (لاقط أخبار) لكنه كان يلتقط جديد الأغاني العربية والخليجية ويستمع إليها بشغف وهو يرددها ويتمنى الوصول إلى مستوى الغناء بمصاحبة فرقة موسيقية . . ومن خلال هذا المخاض اليومي الذي يعيشه شاب متحمس للغناء ومتحمس أيضا للخروج من القوالب القديمة ذات الإيقاع الواحد والمتكرر والذي أشيع في الجلسات الشعبية والمناسبات الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت، فكانت محاولات جابر جاسم رائدة في مجال البحث عن أغنية تلحق بركب مثيلاتها في البلاد العربية، وكان اللقاء المهم مع الشاعر أحمد بن علي الكندي، وتزامن هذا اللقاء مع لقاء شاعر آخر هو عتيج بالروضة الظاهري شاعر غزيل فلة .

في عام 1975 حمل هاتين الأغنيتين (سيدي ياسيد ساداتي وغزيل فلة) إلى الكويت حيث يقدم كل مطرب خليجي فقرة غنائية تمثل بلاده، وكان جابر جاسم يمثل دولة الإمارات العربية المتحدة في احتفالات كأس الخليج لكرة القدم، ويتذكر في أحد لقاءاته الصحفية: (قبل الغناء ولمدة أسبوع أتنقل وحيدا ومن دون ان يعترض طريقي أحد أو يعرفني جمهور . . وبعد الغناء صرت أشق طريقي في الفندق والشارع والسوق وسط إشارات الجميع إلي بأن هذا هو مطرب سيدي ياسيد ساداتي) .

تتميز اختيارات جابر جاسم الشعرية بأنها ابنة بيئتها التي تضيف لأدائه نكهة فنية كان يعرف تماما أنها الطريق إلى الانتشار والشهرة من ناحية، وبأنه يحمل أمانة ثقافية في عملية توصيل نتاج المجتمع الإماراتي إلى المحيط الجماهيري الواسع . . ولذلك كان يختار القصيدة المعبرة عن أدق العواطف والمنتجة بشكل تلقائي وجميل مثل قصيدة الشاعر خلفان بن يدعوه:

واحسرتي ضاق الفضا بي

يوم ابعدوني عن حبيبي

في خنّ ساعي مِ لَخْشابي

سِلْجٍ و مَجْراهِ المغيبي

المعروف أن الفنان جابر جاسم بدأ حياته الفنية في قطر عندما كان في مدارسها الابتدائية والمتوسطة، وكانت الساحة الفنية الإماراتية موزعة في الخارج، فهناك أصوات في السعودية وأخرى في الكويت وهكذا في قطر والبحرين، وذلك بسبب توافر الفرص في مجال الغناء والتسجيل والإمكانات المادية وشركات الاسطوانات والفرق الموسيقية في أواخر الستينات وحتى قيام الاتحاد سنة 1971 حيث بدأت كل تلك المعطيات تأخذ طريقها إلى النمو والتطور في الدولة .

يقول الفنان البحريني ابراهيم حبيب في حديث إذاعي من (صوت الخليج) إن الفنان جابر جاسم قال له إنه دائما يسعى لهدف محدد وهو تأسيس أغنية إماراتية بما فيها من لهجة خاصة ونغمة مرتبطة وتعبر عن طبيعة المكان والمجتمع، وفعلا كان له ذلك من خلال عطائه الذي استمر لفترة قصيرة أنجز خلالها عشرات الأغاني والعناوين الموزعة على نحو عشرين سنة .