عادي
دشن عهد صعود اليمين والسياسيين المتطرفين

«البريكست» زلزال بريطاني يبعثر القارة الأوروبية

03:16 صباحا
قراءة 6 دقائق
إعداد:عمار عوض

عندما وقف رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون في مؤتمر حزبه في العام 2013، واعلن ان برنامجه يقوم على إجراء استفتاء على بقاء البلاد ضمن الاتحاد الأوروبي، بغرض الحصول على أصوات اليمينيين، كان يلعب الروليت الروسي (أو لعبة الموت)، بدراية منه، أو بغيرها، والتي كان هو أول قتلاها عندما جاءت النتيجة صاعقة بفوز خيار الخروج، ما قاد إلى استقالته، وفتح صندوق «الباندورا» كما في الأسطورة اليونانية، إذ سرعان ما انتقلت العدوى إلى بقية دول الاتحاد تنادي بالخروج، ما يهدد وحدته التي بناها القادة الأوروبيون عقب الحرب العالمية الثانية.
ليس هذا فحسب، إذ إن النتيجة شكلت تهديداً لوحدة المملكة المتحدة نفسها، إذ تصاعدت الأصوات في إسكتلندا تنادي بالخروج من الاتحاد البريطاني، وهو ما تجتهد رئيسة الوزراء الحالية تريزا ماي للوقوف دونه، باجتراح طريق يقود إلى احتفاظ بلادها بكيكة الاتحاد الأوربي، وأكلها في الوقت نفسه، عبر المفاوضات التي تقودها مع دوله التي ينتظر أن تنتهي العام القادم.

نتائج الاستفتاء التي أعلنت بوضوح بداية عهد صعود التيارات اليمينية والقيادات «الشعبوية» التي ظهرت في فوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وسقوط ماريو رينزي في استفتاء إصلاح الدستور في إيطاليا، وتيارات اليمين في ألمانيا التي حل فيها حزب «البديل من أجل ألمانيا» المعادي ل«اليورو» واللاجئين والهجرة، في المرتبة الثالثة في الانتخابات المحلية التي أجريت هذا العام، ومهدداً عرش المستشارة انغيلا ميركل، في انتخابات الرئاسة العام القادم، وكذلك الوضع في فرنسا التي كادت فيها ماريان لوبان المعادية لبقاء بلادها في الاتحاد الأوروبي، صاحبة الفكر اليميني الشعبوي المتطرف، تكتسح انتخابات المناطق في فرنسا، قبل أن يتحالف الاشتراكيون الحاكمون ويمين الوسط ضدها وإخراجها من السباق بلا تمثيل نيابي، لكنها تظل الورقة الرابحة في انتخابات الرئاسة العام القادم، وكذا الحال نفسه في النمسا وغيرها.

تسونامي سياسي

لم يكن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (البريكست) تسونامي سياسياً عالمياً وأوروبياً، فقط، إذ اكتسحت أمواجه العالية الحياة السياسية في بريطانيا، حيث تغيرت موازين القوى، وشهدنا استقالة رئيس الوزراء والمحافظين كاميرون من الحزب والوزارة، وصعدت أسهم «الشعبويين»، واقترب وزير الخارجية الحالي بوريس جونسون صاحب أعلى الأصوات ضجيجاً الذي قاد لتصويت البريطانيين للخروج، لكنه فضل الانسحاب من السباق وإعطاء الفرصة لوزيرة الداخلية تريزا ماي لتتقدم صفوف الحزب، وعينه على انتخابات ما بعد إكمال خروج بلاده من الاتحاد.
على الضفة الأخرى، صار جيرمي كوربين، قاب قوسين أو أدنى من تنحيته من رئاسة حزب العمال. لكن كوربين الداهية عاد إلى قواعد الحزب بعد الاستقالات التي طوقته من رفاقه في حكومة الظل الذين دعوه للاستقالة، ولكن سرعان ما دعمته جماهير العمال وجددت ثقتها به في المؤتمر الاستثنائي الذي عقد لهذا الغرض. في وقت صعدت أسهم نايجل فاراج زعيم اليمين البريطاني، الذي تولى الدعوة لخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، وهو البرنامج الذي كرس له حياته، التي توجها بتحقيق هدفه، قبل أن يستقيل من القيادة، وتحل محله اليمينية ديان جيمس، التي لم تخف إعجابها بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أول كلمة لها بعد إعلان فوزها، وشددت على أن بريطانيا «صوتت بالخروج» من الاتحاد الأوروبي، لكنها «لم تخرج بعد». معتبرة أن وجود حزب الاستقلال البريطاني (يوكيب) ما زال شديد الأهمية للوصول لاتفاق خروج يرضي ال17 مليون بريطاني الذين صوتوا له، وشددت على أن الحرب لم تنته، في رسالة ضمنية منها إلى زعماء اليمين الأوروبي، وعلى رأسهم زعيمة اليمين القومي الفرنسي لوبان التي دعت لإجراء استفتاء شعبي في فرنسا حول البقاء في الاتحاد الأوروبي على غرار بريطانيا.

مدينة المال تخسر

وجه «البريكست» ثاني ضرباته إلى مدينة المال والأعمال في لندن، عندما هبط الجنيه الاسترليني إلى مستوى قياسي أمام الدولار الأمريكي واليورو وفقد 15% من قيمته أمام الدولار مع إعلان النتيجة، بينما خفضت وكالتا التصنيف الائتماني «ستاندارد أند بورز» و«فيتش» درجة الدين البريطاني. لذا تسعى بريطانيا بشكل قوى إلى إيجاد بدائل اقتصادية في توسعة التجارة خارج نطاق أوروبا، وهو ما ظهر في زيارة ماي إلى البحرين ومشاركتها في القمة الخليجية، حيث أعلنت بوضوح إنها ترغب في رفع الميزان التجاري مع دول المنطقة، كما تسعى في الوقت نفسه إلى الحصول على صفقة جيدة مع دول الاتحاد الأوروبي، حيث تطرح الوزيرة ماي ثلاثة أنواع من البريكست «أحمر وأبيض وأزرق»، عندما قالت «نريد أيضاً للحصول على أفضل صفقة تجارية ممكنة للتجارة مع العمل في السوق الأوروبية الموحدة»، ليأتي الرد سريعاً وواضحاً من المستشارة الألمانية ميركل منتصف ديسمبر/كانون الأول الحالي أنهم لن يسمحوا للملكة المتحدة ب«اختيار الكرز من طبق الفاكهة»، في إشارة إلى الحريات الأربع - بما في ذلك حرية التنقل - المطلوبة للحصول على عضوية السوق الموحدة. وأجمع قادة الاتحاد على أنهم مصرون على ألا يسمحوا لبريطانيا بالحصول على صفقة أفضل مما كانت تتمتع به كعضو في الاتحاد. ويظل هذا الملف مفتوحاً خلال العام القادم، حيث ينتظر أن تبدأ إجراءات الخروج البريطاني.

مخاوف أمنية

من الناحية الأمنية، شكل «الخروج» مهدداً أمنياً للقارة الأوروبية، وامتدت تداعياته إلى حلف شمال الأطلسي، والحرب التي يقودها ضد الإرهاب، ومحاصرة روسيا التي تتحرش بأطراف القارة العجوز، خاصة بعد أن احتفل الساسة الروس بنتيجة «البريكست»، على أمل أن يخرب ذلك وحدة القارة بما يتعلق بالعقوبات المفروضة ضد روسيا، بسبب تدخلها العسكري في أوكرانيا. وقال سيرغي سوبيانين رئيس بلدية موسكو «من دون بريطانيا، لن يكون هناك أي شخص في الاتحاد الأوروبي للدفاع بحماس عن العقوبات ضدنا».

ويقول إيفو دالدر السفير الأمريكي السابق لدى حلف شمال الأطلسي ورئيس مجلس شيكاغو للشؤون الدولية: «من الواضح أن لدينا بريطانيا أضعف بكثير.. كما ستقل سطوتها على العواصم الأوروبية». وقال إن أي أمر يؤدي لانقسام أوروبا «هو نصر لروسيا لأن تلك سياسة انتهجها بوتين وتبنتها روسيا»، وهذا من المؤكد سيشجع الروس على الاستمرار، بل وعلى الأرجح، تكثيف حملتهم لدعم الحركات القومية اليمينية المتطرفة في غرب وشرق أوروبا في إطار جهودهم لتحييد حلف الأطلسي».

ليس بعيداً عن ذلك، الحرب التي يشنها الحلف على الإرهاب وتنظيم «داعش» الذي شدد ضرباته على عواصم القارة العجوز، حيث يتوقع أن يلقي «البريكست» بظلاله على التعاون في مجال مكافحة الإرهاب مع الشركاء الأوروبيين، حيث ستخرج بريطانيا من قاعدة البيانات الأمنية لدول الاتحاد، حيث قال بروس ريدل، وهو مسؤول سابق في المخابرات الأمريكية (سي.آي.إيه)» سيجعل الأمر من التعاون في أوروبا بشأن مكافحة الإرهاب أكثر صعوبة مما مضى بشكل أكبر مما يتخيل، وكما توقع أغلب رؤساء المخابرات البريطانيين قبل التصويت». بينما من المتوقع أن يبقى تبادل المعلومات المخابراتية بين الولايات المتحدة وبريطانيا - وهو أحد أقوى العلاقات من نوعها في العالم- صامداً في وجه الصدمة السياسية.

«صادق خان» المسلم يفوز بعمودية لندن

الحدث الثاني الأبرز الذي ترافق مع «البريكست» كان فوز عمدة لندن الحالي صادق خان، المولود لأبوين مسلمين مهاجرين قدما من باكستان إلى بريطانيا في سبعينات القرن الماضي، والذي شكل فوزه علامة فارقة في المملكة المتحدة، إذ لم يسبق أن حصل مسلم على مثل هذا المنصب الرفيع.
كما لعب خان المنتمي لحزب العمال البريطاني، دوراً كبيراً بعد فوزه للترويج لخيار البقاء في الاتحاد الأوروبي، وصال وجال في المناظرات التي عقدت أثناء الاستفتاء، مستفيداً من خبرته السياسية والقانونية، حيث امتهن المحاماة طوال حياته التي كرسها لمحاربة الإسلاموفيا، وقضايا حقوق الإنسان، ولكنه رغم هزيمته لمنافسه اليهودي الثري.. في انتخابات العمودية إلا إنه مني بالخسارة في معركة البقاء ضمن إطار الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن النتائج أظهرت تصويت سكان مدينته لندن بنسب خيالية للبقاء، وهو ما دفع السكان اللندنيين لوضع عريضة في موقع البرلمان تطالب بإعادة الاستفتاء، وهو الأمر الذي رفضته الحكومة، التي مضت في مفاوضات الخروج، بينما اتجه السكان إلى ساحات المحاكم من أجل الحصول على حكم قضائي، يعيد الاستفتاء، أو يعرقل عملية الخروج من عباءة القارة الأوروبية.

مقتل «جوكوكس» يخضب «البريكست» بالدماء

أكثر اللحظات مأساوية التي رافقت «البريكست» كانت مقتل النائبة العمالية جو كوكس المعارضة للخروج، على يد توماس ماير أحد المتطرفين الداعمين له، عندما وجه لها طلقات من مسدسه، بالقرب من مكتبة بلدة بريستال، ولم يقف عند ذلك، بل قام بتوجيه طعنات لها وهو يكشف عن هدفه بهتافه «بريطانيا أولاً»، كناية عن المعسكر الداعي للخروج.
الرصاصات التي أطلقها ماير قبل أن تستقر في جسد كوكس، كانت أصابت الأسلوب الديمقراطي، وحرية التعبير المتجذرة في المملكة المتحدة، وعكست إلى أي مدى كانت حملة الاستفتاء مملوءة بالشحن الزائد من قبل أنصار اليمين المتطرف.
وشكل مقتل جو صدمة كبيرة للأوساط السياسية في ويستمنستر، ليس لأنها إحدى النائبات صغيرات العمر، ولكن لحيويتها البالغة في مداولات البرلمان، الذي ولجته بعد أن قضت أعواماً في العمل الإنساني في منظمتي «اوكسفام»، و«سيف ذي تشيلدرن»، وطافت كثيراً من البلدان الأقل نمواً بهذه الصفة، كما كانت ناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة، إلى جانب مكافحة العنصرية والكراهية. كما كانت لها مواقف تدعم حقوق المسلمين، وكذلك عبّرت أكثر من مرّة عن تعاطفها مع القضايا العربية. وأثبتت نفسها كمناضلة تجاه سوريا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"