صوت الإمبراطورية

04:20 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج
أحمد مصطفى

رضخت «بي بي سي» لضغط حكومة حزب المحافظين والصحافة اليمينية في بريطانيا وتراجعت عن قرار منع أغنيتين تقليدتين من الليلة الأخيرة لحفل الموسيقى السنوي لهيئة الإذاعة البريطانية. ورغم أن «بي بي سي» قالت في بيانها إن وقف الأغنيتين، اللتين يختتم بهما حفلها الموسيقي الشهير سنويا بينما الجماهير تلوح بالإعلام البريطانية، كان بسبب وباء كورونا وعدم القدرة على جمع الكورس الكبير كالعادة وأن قاعة الحفل ستكون بدون جمهور، إلا أنه كان واضحاً أن موجة الاحتجاج ضد العنصرية في أمريكا ونسبياً في أوروبا كانت سبباً في منع أغنيتين تمجدان الماضي الاستعماري لبريطانيا العظمى هما «احكمي يا بريطانيا» و«أرض المجد».
جاء قرار التراجع عن المنع بعد يومين من تولي المدير العام الجديد ل«بي بي سي» منصبه، واعتبر القرار تقدمة منه لخطب ود الحكومة اليمينية التي سيدخل معها في مفاوضات تجديد ميثاق الهيئة لسبع سنوات العام القادم. ومعروف أن حزب المحافظين لا يطيق«بي بي سي» ويعتبرها منحازة لليبرالية وتدعي الحياد لكنها تميل لليسار.. إلى آخر اتهامات اليمين لكل من يعارض مواقفه أو حتى لا يؤيدها.
ربما لا يعرف كثيرون أن «بي بي سي» (هيئة الإذاعة البريطانية) عندما أُطلقت عام 1922 كان اسمها «صوت الإمبراطورية» وكانت تبث رسالتها من لندن لأكبر مساحة في قارات العالم تحتلها دولة واحدة، هي بريطانيا العظمى. ثم تغير اسمها بعد ذلك، لكنها ظلت رغم استقلاليتها عن الحكومة تلعب دوراً رئيسياً في تاريخ البلاد حتى لم يتبق غيرها رمزاً للتاج البريطاني بعد بيع يخت الملكة الشهير وتقلص دور مؤسسات الكومنولث.
تعد «بي بي سي» أكبر مؤسسة إعلامية في العالم، بميزانية سنوية تقارب سبعة مليارات دولار، وتمول بالكامل من الشعب البريطاني الذي يدفع رسماً سنوياً لامتلاك جهاز تلفزيون. ولطالما كانت نموذجاً يحتذى في الحياد والموضوعية ومعايير المهنية الصحفية. ولم يكن ذلك يحول دون دورها الوطني، لكن موقف الحكومات منها دائماً متوجس لأنها أصبحت تمثل «صوت الشعب» وليس فقط صوت حكومة الإمبراطورية.. ذلك طبعاً بعدما انتهت الامبراطورية وانحصرت بريطانيا «العظمى» في تلك الجزيرة الصغيرة غرب أوروبا.
يأتي المدير العام الجديد تيم ديفي ل«بي بي سي» من قطاعها الاقتصادي، بدون أي خبرات تحريرية ولا صحفية. ورغم أنه التحق بالهيئة قبل 15 عاما، إلا أنه غالبا ما كان دوره في التسويق والجانب الاقتصادي. قدم ديفي إلى«بي بي سي» عام 2005 من شركة بيبسي، التي كان انجازه فيها تحويل لون عبوتها المعدنية من الأحمر إلى الأزرق.
لذلك، يشبهه كثيرون بمدير عام سابق للهيئة في مطلع التسعينات من القرن الماضي هو جون بيرت، الذي أصبح الآن اللورد بيرت، وبعد تركه منصبه عمل مستشاراً لرئيس الوزراء العمالي توني بلير، وكان آخر من خرج معه من مقر الحكومة. مع إدارة بيرت، شهدت «بي بي سي» أكبر تغيير في تاريخها الممتد عبر قرن من الزمن. فقد أتى بمحاسبين وسماسرة تسويق ليديروا مختلف جوانب الهيئة، متجاهلا الصحفيين واعتباراتهم المهنية. ورغم نجاح عملية إعادة الهيكلة، إلا أن ذلك جاء على حساب الجودة المهنية. هكذا المدير الجديد تيم ديفي، الذي أعلن من أول يوم أنه «سيقلص، ويقلص، ويقلص» ولا مانع لديه من إغلاق قنوات بالكامل. وسبق له أن فعل ذلك في الفترة القصيرة التي تولى فيها إدارة اذاعات في الهيئة، حيث أقفل الإذاعة السادسة، لتعيدها «بي بي سي» بعد ذلك.
سبق أن تولى تيم ديفي إدارة «بي بي سي» لفترة قصيرة حين استقال سلفه وقتها على خلفية تغطية الهيئة لجرائم مذيعها الراحل الشهير جيمي سافيل في تحرشه بالأطفال. لكنها كانت فترة مؤقتة إلى حين تعيين مدير عام جديد وكانت مهمته وقتها الحفاظ على سير سفينتها دون أي مشاكل أو «تغييرات».
لكنه الآن يتولى منصبه بشكل كامل ولفترة كاملة، وبالتالي سيبدأ في انفاذ تصوره الذي ربما يكون أكثر راديكالية من تصور اللورد بيرت. وربما يشهد «صوت الإمبراطورية»، الذي تحول إلى «أصوات» مختلفة للشعب والحكومة والنخبة وغير ذلك، تفكيكاً لما تبقى منه على أساس تجاري واقتصادي خاصة مع تهديد حكومة المحافظين بتقليص تمويل الشعب للهيئة أو اضطرارها لتقاسم تلك المليارات مع شبكات إعلامية أخرى.
ويمكن من الآن الترحم على «هيئة الإذاعة البريطانية» التي عرفتها أجيال كثيرة في عالمنا العربي داومت على الاستماع إلى «هنا لندن». وكذلك البريطانيون الذين كانوا يعتبرون «بي بي سي» إحدى أهم الدرر في التاج البريطاني، وعليهم الآن توقع خفوت لمعانها.
mustafahmed@hotmail.com

عن الكاتب:
يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية