بين السياسة والعلم

01:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

من أهم الفرص الضائعة في محنة وباء فيروس كورونا التي يمر بها العالم حالياً، عدم استعادة العلم لمكانته الرائدة في حياة البشر. فقد كان التصور في بداية الأزمة أن هذا الخطر الذي تتعرض له البشرية كلها، سيُعلي من شأن العلم ويجعل الحكومات والسلطات تعود إلى دعم البحث والتطوير كما كان قبل عقود، وعدم ترك مسؤولية ذلك للشركات فقط التي لايهمها سوى الربح. 

لكن الآن، بعد أشهر من بداية أزمة الوباء، لا يبدو الوضع كذلك، على الأقل في أكثر دول العالم، والمتقدمة منها بشكل خاص. لا يتعلق الأمر فقط بانتشار الخرافة ونظريات المؤامرة والتضليل جهلاً، وتسهيل وجود وسائط انتشار مثل مواقع التواصل على الإنترنت لذلك، وإن كان ذلك مهماً، لكن المشكلة الحقيقية هي في «تسييس» الوباء وتحوله إلى مادة للصراع بين الدول من ناحية، ولكسب نقاط بين المتنافسين السياسيين داخل الدول من ناحية أخرى. يضاف إلى ذلك  وإن بدرجة أقل أهمية في هذا السياق تحديداً  علاقة السياسة ب«البزنس» وتأثير ذلك على العلم والعلماء.

قلائل في العالم هم من آمنوا بحق، أن هذه محنة عالمية تتطلب تضامن كل البشرية. وعلى الرغم أن تصريحات السياسيين جميعاً في البداية كانت بهذا المعنى، فإن الأفعال في ما بعد أظهرت أنه ولا حتى هذا الفيروس القاتل الذي أصاب عشرات الملايين حتى الآن، وفتك بمئات آلاف البشر، يمكن أن ينهي خلافات البشر وألاعيب السياسة. وبسرعة، حاولت السياسة استغلال العلم وظن العلماء والباحثون والأطباء أن هذا وقتهم، وأن السياسيين في النهاية أدركوا قيمتهم وأهميتهم. لكن طول الوقت وبروز مثالب السياسة، وضع العلم والعلماء في مأزق.

حين أعلنت الصين عن نوع الفيروس وتركيبته كان الأمل أن العلماء في العالم  بتنسيق من منظمة الصحة العالمية  سيتعرفون إلى خصائصه وطرق إيذائه للجسم البشري، بما يسهم في التوصل إلى وقاية وقدرة على احتواء خطره، لكن لأن الصين مشهورة بالتستر وإخفاء الحقيقة، استغل السياسيون ذلك في محاولة دفاعية لتبرير عدم قدرتهم على حماية شعوبهم، فألقوا باللائمة على الصين. واضطر ذلك العلماء في أنحاء أخرى من العالم، إلى البدء من جديد في محاولة معرفة تركيبة الفيروس.

والأمر نفسه أصبح ينطبق على تطوير علاج أو لقاح للوقاية، وأصبح السياسيون يتبارون في استعجال الشركات للإعلان عن لقاحات بسرعة، كي يثبتوا لناخبيهم أنهم أحرص عليهم من منافسيهم. وتم التشكيك في دور منظمة الصحة العالمية بعد انسحاب الرئيس الأمريكي منها، ووقف تمويل بلاده لها.

أدى تخبط الحكومات في محاولاتها التوفيق بين محاولات الحد من انتشار الوباء حماية للسكان، وبين الحفاظ على الاقتصاد من الانهيار نتيجة الإغلاق، إلى إلقاء اللوم على العلماء. في أغلب الدول الرئيسية في العالم تسمع تصريحات السياسيين بأنهم يتخذون هذا الإجراء أو ذاك «استناداً إلى نصيحة العلم والطب»، وأنهم يتصرفون بناء على رأي العلماء، ثم تجد هؤلاء السياسيين يخالفون نصائح علمائهم، وأحياناً علناً، لضرورات السياسة والحيلولة دون انهيار الاقتصاد.

أما اهتمام الناس بالطب مثلاً، فيكاد يكون فورة موسمية لحاجتهم للجوء إليه كملاذ أخير في مواجهة خطر مجهول. 

زاد طبعاً من ضياع فرصة استعادة العلم والطب والبحث لمكانته التي تراجعت منذ نهاية القرن الماضي، أن أحداً لم يأخذ الأمر على محمل الجد، خاصة مع تعدد النظريات ونتائج الأبحاث  الجاد منها ونصف المسلوق  ما هز ثقة الناس في قدرة العلم والعلماء. وعلى طريقة الدائرة المفرغة، وفر ذلك مساحة أكبر للجهل والخرافة ونظريات المؤامرة التي لا يتورع بعض السياسيين في دول كبرى عن ترويجها. وللأسف الشديد، سارع بعض العلماء، حتى وإن كانوا قلة، لتلبية متطلبات السياسة فوقعوا في فخ تجاوز الأصول العلمية محاولين توفير «قشة» يتعلق بها الجمهور الذي يوشك أن يغرق، لكن لم تُفد القشة ولم تعد المحاولة على العلم والعلماء إلا بالخيبة. وهكذا أصبح الجمهور يأخذ العلم بما يأخذ به السياسة من قبول باضطرار مع ضعف ثقة وتشكك.

إلا أن الفرصة لم تضع تماماً، فما زالت هناك مساحة للعلم أن يطبق معاييره، حتى لو تأخرت نتائجها، لكنه في النهاية سيزيد الثقة بالعلم والطب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"