الحريات الفردية والمصلحة العامة في عالم معتل

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

عائشة عبد الله تريم

غالباً ما يكون من الصعب، بل ومن المستحيل أحياناً، رؤية الأشياء بوضوح عندما نكون وسط مأساة ما، لكن بالنسبة لمن يمعنون النظر مع استمرار هذا الوباء في تدمير العالم، ربما نقدر التجربة الاجتماعية الهائلة التي مررنا بها، ونشرع في فك شفرة نتائجها في الوقت المناسب بدلاً من الطريقة الاعتيادية في الإدراك المتأخر. يجب ألا يغيب عن أي شخص منا أن الأنماط المجتمعية والثقافية والفردية التي تتغير تحت ضغط الوباء، قد أدت إلى ردود فعل زلزالية، بعضها دمّر قشرة المفاهيم المثالية المتكونة لدينا سابقاً عن المجتمعات. تلك المجتمعات التي وضعناها بشكل طبيعي في ترتيب هرمي، من دول العالم الأول إلى الثالث.

 قدّمت لنا أزمة فيروس كورونا، خلال ما يقرب من عام، مجموعة جديدة من الاختبارات التي يجب أن تعيد نتائجها تشكيل رؤيتنا للمجتمعات والإنسانية ككل. فبينما نحلل الازدياد أو التراجع في أعداد المصابين، ونشاهد كيف أن الحكومات تبحث جاهدة عن حلول تناسب نسيجها المجتمعي، وصلنا إلى نقطة مفادها أن الأرقام أعلى صوتاً. من بين العناصر التي حققت صدى كبيراً هو حقيقة أن البلدان التي تتمتع بثقافات تؤمن بالروح الجماعية تفوقت على تلك التي تُدار وفق أيديولوجيات مثالية. يفرض علينا علم النفس العابر للثقافات التزاماً بتشريح الأسباب الكامنة وراء الأرقام فقط لفهم أن كل شيء مرتبط وأن كل شيء يبدأ وينتهي بالإنسان. يعتقد محللو الروابط الاجتماعية أن المجتمعات المتماسكة التي تتميز بعلاقات إيجابية قوية عبر الفئات الاجتماعية، وبين الفئات الاجتماعية والحكومة أكثر قدرة على التغلب على المشكلات المشتركة، من تلك المجتمعات التي تتمتع بتماسك ضعيف أو غير موجود أساساً.

أحد الأمثلة على ذلك هو القارة الإفريقية التي سجلت معدلات إصابة ووفيات منخفضة نسبياً جراء كوفيد-19، ما جعلنا نشعر بالحيرة، لأن دول العالم الأول القوية لا تزال تعاني المرض. ورغم أن هذه القارة تعج بالتبعية الأجنبية والفقر والعديد من الأوبئة، وتفتقر إلى البنية التحتية المادية والصحية، وذات مستويات منخفضة من الصرف الصحي، وينعدم فيها الأمن الغذائي، إلا أن الوباء فيها أصبح تحت السيطرة بشكل ملموس. في الوقت الذي أدى فيه الفيروس إلى تفاقم الفوارق الاقتصادية، إلا أن الدراسات الاستقصائية أظهرت أن الأفارقة كانوا أكثر استعداداً للمشاركة والتضحية من أجل الصالح العام، كما تظهر الأرقام أن دولاً مثل الولايات المتحدة وبريطانيا تأرجحت تحت ثقل الوباء، حيث لجأ السكان إلى شراء كل ما يوجد على أرفف المتاجر وتخزين الأشياء التي لا يحتاجونها حتى، مجبرين حكوماتهم على التوسل من أجل التعاطف مع الآخرين.

 لقد نجت دول آسيوية مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان من أسوأ ما في هذه العاصفة الوبائية، فضلاً عن التزام أفرادها بالقوانين التي تقيد حقوقهم الفردية انطلاقاً من التزامهم الأخلاقي تجاه الآخر، وتبجيل شعور التكاتف في مجتمعاتهم ذات الروح الجماعية. وعلى الرغم من أن الفلسفة الجماعية في أدنى درجاتها في الدول الاسكندنافية ذات النظام الديمقراطي الاجتماعي، لكنها سجلت أيضاً أعداداً منخفضة من الإصابات والوفيات بشكل كبير.

 كما هو الحال مع كل تجربة بالطبع، هناك العديد من العوامل الأخرى التي تلعب دوراً عندما يتعلق الأمر بالوباء وانتشاره وتأثيره في الدول، ولكن تظل حقيقة أنه عند مواجهة المرض ومع معرفة كيفية انتشاره تقريباً، رفضت كل الشعوب الفردانية بشدة ارتداء الكمامات، وذلك لممارسة حقها في حرية الاختيار، واختيار عدم إزعاج نفسها دونما اكتراث بحياة الآخرين. حتى يومنا هذا وبعد مشاهدة عدد الجثث التي استسلمت لهذا المرض، يحتج الناس على حقهم في عدم ارتداء الكمامات وفرض الإغلاق. هذا لا يعني أن الروح الفردية هي العدو، ولكن الأمر يستحق بعض التأمل عندما تأتي «أنا» على حساب «نحن»، فماذا يتبقى منا عندما يذهب «الكل»؟

 لعدة قرون، شيطن العالم الغربي الفلسفة الجماعية، وأنتج درجات متفاوتة من التعابير عن فلسفاتها الجديدة، بينما أضفت باقي دول العالم الطابع المثالي على الديمقراطيات الغربية وخصائصها الفردية، حتى أن العديد من الدول تخلت بنشاط عن الأنماط الثقافية الجماعية الخاصة بها على أمل محاكاة «دول العالم الأول» هذه بنجاح، ولكن عندما ننظر عن كثب، ونتعمق في طبيعة الدول التي اهتمت بالفرد من خلال قطع الروابط الإنسانية وتقليل الأوساط الاجتماعية، نجد أنه عند مواجهة معاناة جماعية، لا يمكن أن نتوقع مواجهتها بالعلاج الفردي. فالإنسانية قبيلة يجب أن تعمل معاً من أجل التغلب على ما يواجهها. لقد واجهنا كوفيد-19 والنتائج خير دليل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"