من اقتصاد المعرفة إلى اقتصاد الصحة

00:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. عصام نعمان

بات العالم برمته حيال السلالة الجديدة من جائحة كورونا قريةً كونية واحدة. جميع الدول والشعوب باتت مهددة بمفاعيل سلالاته القديمة والجديدة ومدعوة تالياً الى تنسيق جهود المواجهة.

 مبعث القلق والاستنفار قدرة سلالته الجديدة على الانتشار بنسبة تصل إلى 70 في المئة من سابقتها لدرجة حملت وزير الصحة البريطاني ماط هانكوك على القول: «يا للأسف. السلالة الجديدة خارجة عن السيطرة». قال ذلك بعدما تبيّن أن السلالة الجديدة مسؤولة عن 60 في المئة من الإصابات في العاصمة لندن وجوارها ما أخضع أكثر من 16 مليون بريطاني لإجراءات إغلاق جديدة وصارمة دخلت حيز التنفيذ منذ يوم الأحد الماضي في لندن وجنوب شرق بريطانيا.

 سرعةُ انتشار السلالة الجديدة حملت دول أوروبا، خصوصاً الأقرب إلى بريطانيا كفرنسا وهولندا، إلى تجميد عمليات النقل والانتقال معها، بحراً وجواً. منظمة الصحة العالمية سارعت بدورها إلى دعوة دول أوروبا إلى «مضاعفة قيودها» ما أدى إلى حظر الطيران والقطارات القادمة من بريطانيا.

 الذعر من سرعة انتشار السلالة الجديدة فعل فعله في جميع أنحاء العالم، من غرب أوروبا إلى شرق آسيا وصولاً إلى أمريكا الشمالية والجنوبية وإفريقيا.

 إنه زمن كورونا بامتياز، لكنه ليس الوحيد. التاريخ ينطق بحقيقة إضافية مفادها أن لكل زمن دولة ورجالاً.. وكورونا بشكل أو بآخر. فخلال الحرب العالمية الأولى 1914 -1918 اندلعت جائحة إنفلونزا واسعة أطلق الناس عليها في المشرق العربي اسم «الحمّى الإسبانية»، ظنّاً منهم أن منطلقها كان إسبانيا، وعمّت أوروبا كما أمريكا. قبلها، عمّت العالم في قرون عدّة جائحات فتّاكة أخرى كالطاعون والكوليرا فضلاً عن الإنفلونزا بمختلف أصنافها.

 لعل كورونا أعظم الجائحات المرصودة لسببين: الأول، الثورة في تكنولوجيا المعلومات التي حوّلت عالمنا كله إلى قرية كونية من حيث التواصل والاتصال وسرعة رصد الواقعات، ونقلها ما جعل العالم برمته معنياً بمواجهة تحدٍّ مشترك وبالغ الخطورة. الثاني، نشوء تحوّلات بالغة التأثير في الاجتماع والاقتصاد والسياسة.

 في الاجتماع، أدت سرعة انتشار كورونا وضحاياها إلى فرض قيود صارمة على الانتقال والنقل والتجمّع والتماسّ الشخصي المباشر بين الناس نتيجةَ قيود التباعد والإغلاق وحظر التجمعات بمختلف أشكالها وغاياتها. هذا التحوّل المستجد ترك وسيترك آثاراً في العلاقات الشخصية الإنسانية الحميمة وربما يؤدي، بقليل أو كثير، إلى خفض معدلات التناسل بين الناس.

 في الاقتصاد، نشأت وستنشأ تحوّلات بالغة التأثير. ذلك أن الثورة في تكنولوجيا المعلومات أنجبت ما جرى التعارف على تسميته «اقتصاد المعرفة» الذي أنجب بدوره صناعة واسعة، منتجة، ومؤثرة في ميادين الاقتصاد جميعاً. غير أن ظهور جائحة كورونا بكل مخاطرها أدى إلى نقل الجهود الخاصة والعامة من اقتصاد المعرفة إلى ما يمكن تسميته «اقتصاد الصحة»، بمعنى التركيز على أولوية إنتاج الأدوية والآليات والطرائق الكفيلة بالحدّ من انتشار الجائحة المستجدة ومعالجتها، وخصوصاً تعزيز التعاون المحلي والعالمي في هذا السبيل. ولاشك في أن التركيز على مختلف وجوه اقتصاد الصحة عزز وسيعزز باطّراد المنافسة في اختراع الأدوية اللازمة لمواجهة جائحة كورونا بكل سلالاتها، وتأسيس الشركات والمؤسسات المعنية بذلك، وتخصيص مليارات الأموال بشتى العملات من أجل تنمية صناعة إنتاج الأدوية وتعميمها.

 في السياسة، ستنشأ بالضرورة حوافز ومصالح متعددة بين المجتمعات والشعوب والدول للتعاون والتحالف أو للتنافس والتصارع. قد لا تكون صيغ التعاون والتحالف والتنافس على حساب التحالفات السياسية والعسكرية الراهنة، لكنها ستتجاوزها بالضرورة من حيث هوية وقدرات وجغرافية أطرافها في العالم المعاصر.

 في هذا السياق، سيتراجع الاهتمام بمسألة السيادة وصونها لصالح المزيد من الاهتمام والتركيز على مسألة التعاون والتنسيق في إطار منظمات دولية قائمة، كمنظمة الصحة العالمية، أو منظمات جديدة تتطلبها تحديات جائحة كورونا ومتطلبات مواجهتها في ميادين متعددة.

 لا غلوّ في القول إن كفة الفعل والحضور في قابل الأيام ستميل وترجّح اقتصاد الصحة من دون الانتقاص من أهمية اقتصاد المعرفة ودوره في حياة الناس والشعوب والدول.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مُجاز في الحقوق ودكتور في القانون العام ومحام منذ السبعينات .. أستاذ محاضر في القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية زهاء عشر سنوات .. نائب ووزير سابق .. له مؤلفات عدة وعديد من الأبحاث والدراسات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"