عادي

أرباح بعيدة عن العرب

01:10 صباحا
قراءة 7 دقائق
1

القاهرة: مدحت صفوت

السؤال عن المردود الاقتصادي للثقافة في العالم العربي، يدفع بنا إلى أسئلة عدة متشابكة متعلقة بمفهومي الثقافة والاقتصاد من جهة، ومرتبطة بمعرفة علاقة الاستثمار الثقافي بجوانب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بهدف تحقيق التكامل بين عناصر هذه العملية المستدامة، من جهة أخرى، وما يمكن أن تضيفه الثقافة من تعزيز للاقتصاد الوطني من خلال هذا الدور.

القضية ليست اختراعاً، فضمن فروع علم الاقتصاد، يبرز «علم الاقتصاد الثقافي»، المعني بدراسة العلاقة بين الثقافة والنتائج الاقتصادية، ما يعني ضرورة إعادة تعريف الثقافة من خلال المعتقدات المشتركة وتفضيلات المجموعات المعنية، ولا يكتفي بوضعها في أُطر ثابتة وجامدة وأشكال فكرية محددة، لتشمل مناحي جديدة لم تكن تؤطر ضمن المفهوم، بما يحيل الثقافة برمتها كحقل متنامٍ في الاقتصاد السلوكي، ما يُنهي الأمر بإحداث فوارق بينة في صنع القرار وإدارة وتقييم الأصول.

وعلى الرغم من أن الاقتصاد الثقافي مبحث مستقل من مباحث علم الاقتصاد، ويوماً بعد آخر ينمو رف دراساته في المكتبة الإنسانية، فإن قطاعاً ليس بالهين من المثقفين العرب، أو العاملين في المجال الثقافي في العالم العربي، لا يعي العلاقة الطردية بين الثقافة والاقتصاد، فكلما تعاظم دور الثقافة انتعش الاقتصاد وازدهر.

في البداية يمكن القول إن «الاقتصاد الثقافي» لا يعني فقط دراسة الصناعات اليدوية والمؤسسات كوسائل الإعلام أو دور النشر، التي تبدو علاقتها بالاقتصاد واضحة وجلية؛ كونها صناعات في المقام الأول، وإنما يتخذ المفهوم في الواقع، من فرضيته الأولية الادعاء بأن الثقافة لا يمكن فصلها عن المفهومين الآخرين اللذين نظما تقليدياً العلوم الاجتماعية والثقافية: الاقتصاد والمجتمع.

أكثر من بُعد

إذن، لا يتعلق المفهوم بالتعامل مع المنتج الثقافي كسلعة أو خدمة فحسب، وإنما تمتد العلاقة بين الاقتصاد والثقافة إلى بُعدين آخرين أولهما «ثقافة الاقتصاد»؛ أي اعتبار السلوك مؤثراً في الاقتصاد، والثاني الاقتصاد الإبداعي؛ أي التعامل مع الأفكار الإبداعية في الاقتصاد بهدف تحسينه أو بناء أنواع جديدة من المؤسسات لم تكن معروفة من قبل.

تنمية مستدامة

بعد أن يجري تدشين الاقتصاد الثقافي، أو الثقافة ذات المردود الاقتصادي في بلد ما، من المؤكد أن يصب ذلك في التنمية المستدامة التي عادة ما يجري تعريفها بأنها «تنمية تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها»، وتلعب الثقافة هنا دوراً مهماً في هذا؛ لأنها يمكن أن تحدد كيف ينظر الناس إلى الاستعداد لهذه الأجيال القادمة.

«الإشباع المتأخر» قضية اقتصادية ثقافية تتعامل معها البلدان المتقدمة حالياً، ويجادل الاقتصاديون بأنه لضمان مستقبل أفضل مما هو عليه اليوم، يجب اتخاذ تدابير معينة مثل تحصيل الضرائب أو التحول إلى الاقتصاد الأخضر أو البيئي، ومثل هذه السياسات يصعب على السياسيين الترويج لها، ممن يريدون الفوز بأصوات الناخبين المهتمين بالحاضر وليس المستقبل، فالناس يريدون رؤية الفوائد الآن وليس في غد.

«أحيني اليوم وأمتني غداً»، سلوك ثقافي يكاد يسيطر على كثير من الشعوب وليس العرب وحدهم، ومن ثَم اقترح الخبير الاقتصادي الأسترالي ديفيد ثروسبي، فكرة التنمية المستدامة ثقافياً التي تربط بين الصناعات الثقافية مثل الفنون والثقافة بالمعنى المجتمعي، بالتنمية، وأنشأ مجموعة من المعايير من أجل ضمان النمو للأجيال القادمة.

ثروسبي الذي تتناول كتاباته الدور الاقتصادي للفنانين، واقتصاديات التدخل العام في أسواق الفنون، والتنمية والسياسة الثقافية، وقضايا التراث، شملت رؤيته النهوض بالرفاهية المادية وغير المادية، لضمان التوازن بين القوى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك المساواة بين الأجيال والحفاظ على رأس المال الثقافي.

ويشترط ضرورة أن يعترف الجيل الحالي بمسؤوليته تجاه الأجيال القادمة، فضلًا عن الإنصاف داخل الجيل الحالي، بما يعني عدالة توزيع الموارد الثقافية. كما أوضحت رؤية ثروسبي ضرورة الاعتراف بالاعتماد المتبادل؛ أي تفهم السياسة للروابط بين المتغيرات الاقتصادية والثقافية، والمتغيرات الأخرى داخل النظام المجتمعي، ومن خلال هذه الإرشادات يأمل ثروسبي تحفيز العلاقة بين الثقافة والاقتصاد، «أمر يعتقد أنه كان ينقص المناقشات الاقتصادية الجماهيرية والعامة» على حد قوله.

الخمسة الأوائل

في تقرير المحررة الأمريكية ليندسي جالاواي، المنشور على موقع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، تكشف عن أبرز 5 دول تجني الأرباح من المنتجات الثقافية، معتمدة على تقارير مؤسسة «يو أس نيوز أند وورلد ريبورت»، التي تناولت أشكالًا ثقافية متعددة بدءاً من الفنون البصرية والمرئية والأدائية مروراً بالأزياء وتصميماتها، وصولًا إلى الأطعمة التقليدية؛ كونها تعد منتجاً ثقافياً.

وحسب التقرير، حلّت إيطاليا في المركز الأول، لما تنتجه من فنون وإبداعات كالأوبرا والرقص والأغاني، إلى جانب تصميمات العلامات التجارية مثل فالنتينو، وأرماني، وفيرساتشي، وجوتشي، فضلاً عن الأطعمة الإيطالية التقليدية، وتعد مدينة بولونيا إحدى الوجهات الثقافية الشائقة للأجانب، والمعروفة أيضاً بتراثها الغني خاصة في ما يتعلق بالمأكولات.

كما شملت القائمة فرنسا ثم الولايات المتحدة، خاصة ما تنتجه من سينما ومواد فيلمية، وصناعة التكنولوجيا التي تتميز بها أمريكا ولها أيضاً أثرها، وإسبانيا كون اللغة الإسبانية ثاني أكثر اللغات انتشاراً في العالم بعد الصينية عند القياس بعدد المتحدثين الأصليين، وأخيراً في المركز الخامس المملكة المتحدة التي لا يقتصر الإنتاج الثقافي فيها على لندن، فمدينة إدنبرة لها تأثير ثقافي كبير، وتستضيف مهرجان «فرينج فيستيفال»، أضخم مهرجان فني في العالم، فضلًا عن كونها مسقط رأس هاري بوتر، فيما تعد مدينة بيرمنجهام وسط البلاد منافساً آخر للندن وإدنبرة في مجال الثقافة.

الترفيه

ولعل أبرز أشكال المنتجات الثقافية ذات المردود الاقتصادي المباشر هي السينما والمسارح والمعارض التشكيلية. وتدر صناعة السينما العالمية دخلًا بما يقارب 100 مليار دولار في العام، وتعد أحد مصادر التمويل أو أحد مصادر الدخل القومي، وهو ما شهده الاقتصاد المصري في فترة الستينات قبل هزيمة 1967.

لنذهب إلى المملكة المتحدة، ونرى قطاع صالات العرض السينمائي الذي يتضمن عرض الأفلام في دور العرض، ويمثل المرحلة النهائية في إنتاج وتوزيع الأفلام، وتحوي المملكة 4 آلاف شاشة عرض.

وتحقق دور السينما إيرادات من ثلاثة مصادر رئيسية، الاستحواذ على شباك التذاكر وبيع الطعام والشراب والبضائع (الامتيازات) ومن الإعلانات، لاحظ أنها جميعاً مواد يمكن أن تندرج تحت بند المنتجات الثقافية. ولعل العبارة البريطانية الشهيرة «دور العرض مجال خصب لبيع الفشار» دالة على أن أسواق الفنون مجالات مفتوحة لضم غيرها من البضائع والسلع التي تبدو في مظهرها غير ثقافية.

وحسب إحصائيات 2019، كانت الصين ثاني أكبر سوق شباك التذاكر في العالم، بإيرادات بلغت 9.3 مليار دولار أمريكي، ويشمل الرقم رسوم التذاكر عبر الإنترنت أيضاً، وكما هو الحال دائماً، احتلت الولايات المتحدة وكندا المرتبة الأولى مناصفة، على الرغم من انخفاض الإيرادات من 11.9 إلى 11.4 مليار بين عامي 2018 و2019، حسب التوزيع الداخلي فقط.

أما السينما الهندية ورمزها مدينة السينما في بوليوود بحيدر آباد في ولاية أندرا براديش، فقد حققت إيرادات بنحو 25 مليار دولار بزيادة 10 مليارات دولار على عام 2010، حتى كوريا الجنوبية المحرك الرئيسي لصناعة الأفلام في جنوب شرق آسيا، تحقق دخلًا قومياً بحوالي 7 مليارات دولار، وتوفر فرص عمل مباشرة بما يقرب من 67 ألف فرصة عمل، فيما لم تتجاوز إيرادات السينما المصرية عام 2017، 160 مليون جنيه؛ أي 10 ملايين دولار، من إنتاج 24 فيلماً فقط.

تراجع

السينما ليست وحدها المنتج الثقافي الذي يمكن أن يعد مصدراً للدخل، فصناعة نشر الكتب العالمية مجال ليس بالهين؛ إذ حقق خلال عام 2019 نمواً في جميع أنحاء العالم بمقدار 13 مليار دولار أمريكي، بزيادة تقترب من 6%، ولولا جائحة كوفيد  19، لكان المتوقع أن تنمو الصناعة خلال العام الجاري بنسبة 2%.

ومع ما مر به العالم من حوادث خلال انتشار فيروس كورونا، توقع المختصون تراجع صناعة نشر الكتب من 92.8 مليار دولار في 2019 إلى 85.9 مليار دولار في 2020 بمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) بنسبة سالب 7.5% فقط.

وحسب موقع «prnewswire» يعزى الانخفاض بشكل أساسي، إلى التباطؤ الاقتصادي في جميع البلدان بسبب تفشي كورونا، والتدابير المتخذة لاحتوائه، ومن المتوقع بعد ذلك أن يتعافى السوق وينمو بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 2% اعتباراً من عام 2021 ويصل إلى 91.4 مليار دولار أمريكي عام 2023.

وتعد منطقة آسيا والمحيط الهادئ أكبر منطقة في سوق ناشري الكتب عالمياً، واستحوذت على 34% من السوق في عام 2019. وكانت أمريكا الشمالية ثاني أكبر منطقة من السوق، فيما تعد إفريقيا أقل منطقة في سوق ناشري الكتب.

ويعد نشر الكتب والمجلات والأعمال الأخرى جزءاً مهماً من الاقتصاد الإبداعي، ويسهم في ذلك تغيير طبيعة النشر بشكل عميق، في ظل التطورات التكنولوجية وابتكار أشكال متعددة من الكتب. وتضم الولايات المتحدة وحدها نحو 100 ألف ناشر، بحجم مبيعات يتراوح بين 25 مليار إلى 30 مليار دولار!

ومن المؤسف أن نصيب العرب من حجم استثمارات صناعة الكتاب يكاد يكون منعدماً، ففي الوقت الذي حطمت فيه دور النشر البريطانية جميع أرقام إيرادات 2017 لترى مبيعاتها الجماعية ارتفاعاً بنسبة 5% إلى 5.7 مليار جنيه إسترليني، مدفوعة بنمو في مبيعات التصدير التي تمثل الآن 60% من عائدات الناشرين في 2018، فإن مبيعات العرب من الكتاب لا تزال هزيلة، ولا تزيد في بلد بحجم تعداد سكان مصر على 200 مليون جنيه؛ أي نحو 12 مليون دولار.

واقع مؤسف

في الوقت الذي تنتج فيه الصين نحو 150 ألف عنوان سنوياً، وتحقق أسواق الكتاب هناك أرباحاً كبيرة للناشرين، ويأتي قطاع صناعة الكتاب من بين أكبر ثلاثة قطاعات مربحة، إلى جانب قطاعي العقارات والتعليم، فإن الناشرين العرب مجتمعين لا يصدرون إلا نحو 7 آلاف عنوان سنوياً فقط، مقابل ربع مليون عنوان كتاب تُصدره بريطانيا وحدها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"