عادي

بعيداً عن شاشة الهاتف الجوال

22:21 مساء
قراءة 5 دقائق
1

استطلاع: نجاة الفارس 

يؤكد عدد من الكتاب والمثقفين أن التقدم التقني يدعو إلى تجديد نصوص أدب الرحلات وتلوينها بشكل ولغة وقضايا كي تتناسب مع الثورة الرقمية المعاصرة، ففي كل مدينة أو بلد أعراف وطقوس وتراث يستحق أن يقف عليه أدب الرحلات ويبرزه من باب المثاقفة بين الشعوب.

ويذكرون في استطلاع ل «الخليج» أنه مهما طغت سهولة السفر وانتشار البرامج السياحية سواء على شاشة التلفاز أو اليوتيوب، فسيظل للكتاب الذي صيغ بطريقة أدبية عن رحلات وأسفار الكاتب، رونقه وبريقه وجمهور يحرص على اقتنائه.

تجارب ومغامرات

الدكتور شعبان بدير، ناقد وأكاديمي في جامعة الإمارات، يقول: تغيرت كتابة الرحلة على مدى العقود القليلة الماضية، بعدما أصبح السفر متاحاً لأكثر البشر وبأسعار مناسبة، وكذلك بعد الثورة الرقمية ونشر المعلومات والصور والمقاطع المرئية عن الدول والمدن التي كان الرحّالة يسافرون إليها لمدة ربما تصل إلى أشهر عدة، ولذلك سعى كتاب السفر إلى تغيير أساليبهم من أجل التكيف مع الطريقة التي تغير بها المسافرون ورحلاتهم، فبعد هذا التطور في طرق السفر والارتحال الافتراضي حول العالم، لم يعد مناسباً أن ينظر الكاتب في تصوير رحلته بمنطق الرحالة في القرون الوسطى، عندما كانت هناك الكثير من الوجهات والمناطق غير مكتشفة؛ بل غامضة يمكن للرحالة أن يدعي أنه أول من زارها فينسج حولها الكثير من القصص الخيالية والعجائبية، لكن هذا التغير ليس دافعاً كي ينصرف كتاب الرحلة عن هذا الجنس الأدبي المهم؛ بل كان محفزاً نحو التطور والبحث عما يريده القارئ الذي أصبح العالم كله بين يديه في هاتفه الصغير، فتحولت اهتماماته في أدب الرحلة من المكان بأشكاله ومعالمه، إلى معرفة ما وراء المكان والمعلومات الأكثر أهمية عن الحياة وطبائع البشر وثقافاتهم، وهنا تتجلى أهمية المقاربات الأنثروبولوجية والإثنوجرافية في أدب الرحلة؛ في كونها لا تقصر اهتمام الرحالة على الجانب المادي البيولوجي للإنسان فحسب؛ بل تتعداه لتشمل كل تفاصيل حياته ونشاطه الاجتماعي وتكوينه الثقافي داخل منظومته الاجتماعية، فتجعل قارئ الرحلة يعيش حياة أهل المكان ويتفاعل مع عاداتهم وتقاليدهم، ولم تعد الأماكن السياحية هي الأكثر جذبا في السفر بل التجارب والمغامرات، التي تغير أسلوب حياتنا وتجعلنا نتعلم من تجارب الآخرين، والقصص التي تسرد بأسلوب جذاب فتربط كاتب السفر بالعالم الخارجي ثم يربط تجربته بحياة القراء وعوالمهم.

ويضيف دكتور بدير: مهما تطورت التكنولوجيا وتطور معها السفر الافتراضي التقني والحقيقي لا يمكن أن تكون كافية لإشباع رغبات الإنسان وتطلعاته نحو المعرفة والاطلاع على حياة الآخر، لكن في الوقت ذاته فإن هذا التقدم التقني يدعو إلى تجديد النص الأدبي الرحلي وتلوينه بشكل ولغة وقضايا عصرية كي يتناسب مع الثورة الرقمية المعاصرة، مثلما أبدع محمد سناجلة في إبداع قصص رقمية تفاعلية يتواشج فيها التراثي والحداثي بالعجائبي والصوري والتقني، ويتعالق خلالها الخيالي بالواقعي والتقني في قصته «تحفة النظارة في عجائب الإمارة» والتي فتح خلالها باب الريادة الرقمية التفاعلية في مجال أدب الرحلات الرقمي.

زخم آخر

 الروائي حارب الظاهري، يقول: إن أدب الرحلات ما زال ماثلاً ضمن محاور السفر المتعددة على الرغم من الحياة المتعجلة والسريعة، ولم يعد أدب الرحلات على وصف ابن بطوطة وخاصيته ومبادئه التي أصبحت في عرف التاريخ، لكن تظل له إطلالته الخاصة الخاضعة لثقافة مختلفة وراقية وذات نفس يتوق له القارئ، إذا كان أدباً مكتوباً وكذلك إذا كان متلفزاً، لأن البرامج في بعض القنوات تستند على أدب الرحلات؛ بل تجاوزت الصورة المتلفزة الأمكنة وقد أثرت في دلالات السفر، ومنحت المسافر صورة مسبقة عن المجتمع الذي يرحل إليه.

ويتابع: التكنولوجيا منحت أدب الرحلات زخماً آخر، أي قربت المسافات، لكن يظل التعبير عن عمق المكان هو الأجمل، ويتمثل في استشراف حياة الأمم والبشر وسماتهم ونقلها إلى الآخر، ففي كل مدينة أو بلد أعراف وطقوس وتراث يستحق أن يقف عليه أدب الرحلات ويبرزه في مجمل المثاقفة بين الشعوب، لكن الغرائب المدهشة لم تعد كما كانت في عصور سابقة. 

مبيعات كبيرة

 الروائية منال جلال، تقول: صدر كتاب جول فيرن «حول العالم في ٨٠ يوماً» في أواخر القرن التاسع عشر، وكانت الرحلات التي يصفها بطل الرواية تعتمد على القطار والسفن، فقط، ومرت على أماكن معروفة ومشهورة مثل قناة السويس بمصر، وبومباي وكالكوتا في الهند، وسان فرانسيسكو ونيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، ونقطة الانطلاق كانت من لندن؛ ومع ذلك لا يزال هذا الكتاب يحقق مبيعات كبيرة في كل مكان، ومثله كتاب أنيس منصور «حول العالم في ٢٠٠ يوم» الذي صدر في عام ١٩٦٣م، وهو على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في معارض الكتب العربية، على الرغم من انتشار الفضائيات وبرامج وقنوات اليوتيوب المتخصصة في الأسفار والرحلات.

وتضيف جلال: ما زلت أتذكر مقولة ابن بطوطة: «فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصباً، ولقيت كما لقيا نصباً»، وهذا المقطع من كتاب «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» للرحالة الأمازيغي الطنجي محمد بن عبدالله بن محمد اللواتي المعروف بابن بطوطة، وهو لقب أطلقه عليه «الفرنجة» واشتهر به بعد ذلك، ويعد من أقدم كتب أدب الرحلات والأسفار.

وتتابع جلال: أنشأ «المركز العربي للأدب الجغرافي - ارتياد الآفاق» في أبو ظبي ولندن قد أنشأ جائزة «ابن بطوطة لأدب الرحلة» في عام ٢٠٠٣م تشجيعاً لهذا الفرع المهم من الآداب، لذلك مهما طغت سهولة السفر وانتشار البرامج السياحية، فسيظل لأدب الرحلة، رونقه وبريقه والجمهور الذي يرغب في اقتناء هذا النوع من الكتب، وذلك لأن الأديب يمتلك عينين مختلفتين يرى من خلالهما أعمق من السطح الذي تصوره الكاميرات ويهتم بتفاصيل دقيقة لا تلتقطها العدسات، وينقل لنا ليس فقط الألوان والشكل؛ بل يشعر القارئ بالرائحة والطعم والملمس كأنه في المكان وبين أهل البلد، وينقل انطباعه ورؤيته وهو أهم وأمتع وأفيد من مجرد مشاهد صامتة أو تعريفات ميكانيكية؛ فنجد من كبار أدبائنا المعاصرين من أصدر كتباً في هذا الفرع من الأدب مثل كتاب محمد المخزنجي: «جنوباً وشرقاً رحلات ورؤى»، وكتاب إبراهيم عبد المجيد: «أين تذهب طيور المحيط».

حلقة مفقودة

ويقول الشاعر الدكتور محمد فياض: أدب الرحلة من أرقى فنون الأدب، فهو يجعل القارئ يعيش المكان والزمان اللذَين سُطِر فيهما ذلك الكتاب، ولا شك أن هذا النوع من الأدب قديماً كان من الأهمية بمكان، وإذا كان أدب الرحلة لا يتكون إلا من خلال معاناة التنقل والأسفار، فإنه اليوم أصبح متاحاً لكل قادر على الكتابة.

ويلفت فياض إلى أن أدب الرحلة اليوم؛ مهما أبدع فيه صاحبه من التنقل بين البلدان من خلال «الإنترنت»، وعَلِمَ من أحوال تلك البلاد، فتبقى هناك تلك الحلقة المفقودة؛ ألا وهي ما يسمّونه «نَفَس الكاتب»، ولذلك لا نستطيع أن نقول: إن أدب الرحلة قد انهار بالكلية؛ لكن بوسعنا أن نتأسف على التراجع الواضح الذي أصاب هذا النوع من الأدب، لقد قرأنا في أدب الرحلة لأدباء معاصرين؛ لكنه لا يُفرَح به كما يقول أهل التحقيق في كل عِلم.

 هناك العديد من الأدباء قد توفرت بين أيديهم ظروف تجعلهم يطوفون العالم ويكتبون في هذا الأدب؛ لكنهم إما أنهم آثروا العجلة فاستعانوا بوسائل التواصل الإلكترونية، أو قاموا فعلًا برحلات، لكنهم تكاسلوا عن تدوين رحلاتهم ككتاب أدبي، أضف إلى ذلك ما يجده الأديب من أحوال البشر مع هذا النوع من الأدب؛ والواقع أن الغالبية العظمى من الناس الآن تتجه إلى الشبكة العنكبوتية دون اعتبار المصداقية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"