عادي

«سول» كرتون فلسفي للكبار يغوص في جوهر الحياة

23:37 مساء
قراءة 5 دقائق
1
2

مارلين سلوم

نقلتنا بعض شركات الإنتاج العالمية من مرحلة التسلية والسذاجة والرسائل المبسطة في أفلام الكرتون، إلى مرحلة أعمق، تتساءل فيها ما إذا كان المقصود منها الوصول إلى عقل الطفل، أم والديه. ولم يعد «الكرتون» يخص عالم الأساطير السحرية، بل هبط إلى الأرض، والتصق بالواقع، وذهب منه إلى عمق النفس البشرية، وأحياناً يغوص في عمق الفلسفة وأسرار الحياة والموت، ومعنى الوجود، مثلما يفعل فيلم «سول»، أي «روح»، المعروض في الصالات، والذي يصنف لجميع الأعمار، ولكنه ليس بالسهولة التي تمكن صغار السن من استيعاب أحداثه.

عودتنا شركة «بيكسار» على «أنسنة» شخصيات أفلامها الكرتونية، فهي تختار قصصاً تعتمد على المشاعر الإنسانية، حتى حين قدمت سلسلة «توي ستوري» التي من المفترض أنها تحكي عن عالم الألعاب، وجعلتها تتحرك وتتكلم وتحس وترتبط بأصحابها وبالأطفال الذين يقتنونها. والفضل لا يعود إلى الشركة فقط، بل إلى من يكتب ويخرج تلك الأعمال، وقد ارتبط اسم الشركة باسم المؤلف والمخرج بيت دوكتر، الحائز على جائزتي «أوسكار» أفضل فيلم كرتون عن «أب» عام 2010، و«إنسايد أوت» عام 2015، إضافة لعدة جوائز عالمية أخرى، منها «بافتا» عن نفس الفيلمين، وأيضاً لفيلم «مونسترز» عام 2002، وهو أحد مؤلفي فيلم «توي ستري»، أو «قصة لعبة».

فيلم «روح» يذكرك كثيراً ب«إنسايد أوت»، سواء في الإخراج أو أشكال الرسوم والشخصيات التي يصورها المخرج دوكتر، باعتبارها موجودة في العالم الخفي الذي لا نعلم عنه شيئاً: داخل عقل الإنسان، وفي العالم الآخر بعد الموت. حتى روح الفيلم الجديد والمعاني الفلسفية فيه تذكرك بالفيلم الأول الذي نال إعجاب الجمهور والنقاد، وخلق حالة من الإبداع المعتمد على إشغال عقل الجمهور بجانب استغلال التقنيات الحديثة، والحالة هذه تدعو السينمائيين إلى مرحلة مختلفة من أفلام التحريك والكرتون.

على هذا النهج تدور أحداث فيلم «سول»، البطل هو جو جاردنر (صوت جيمي فوكس)، عازف «بيانو» لموسيقى «الجاز»، يملك أنامل سحرية ويعشق العزف، لكنه يشعر بالملل لأنه لا يستغل موهبته سوى في وظيفته كمدرّس حصص موسيقى في إحدى المدارس، في حين أنه يحلم بالعزف أمام جمهور. في هذا اليوم، يحصل جو على فرصتين، الأولى بتعيينه موظفاً ثابتاً بدوام كامل في المدرسة، ما يسعد والدته (تؤدي دورها فيليسيا رشاد)، لأنه يضمن له راتباً شهرياً وضماناً صحياً، بدل أن يكون مصيره مثل والده الذي كان عازف «جاز» أيضاً. يرفض جو هذا التعاقد الذي سيقيّد موهبته وسعيه خلف تحقيق أحلامه. والفرصة الثانية هي «الحلم الحقيقي» بالنسبة إلى الشاب، حيث اتصل به صديقه ليخبره بضرورة الحضور إلى الاستوديو حيث تتم تدريبات فرقة «أشهر عازفة ساكسوفون»، دوروثيا ويليامز (أنجيلا باسيت)، ويحتاجون إلى بديل عن عازف البيانو الذي لم يحضر.

طبعاً يسرع الشاب إلى الاستوديو، ويبهر دوروثيا بعزفه، وهنا يقدم المخرج مشهداً يبدو فيه جو كأنه من لحم ودم لا رسم وتحريك، بطريقة عزفه، وتحريك أنامله، وشدة انسجامه، كأنه يحلق في عالم آخر. تنتهي التجربة بنجاح، وتطلب الفنانة من جو العودة في المساء للانتهاء من تدريبات الحفل الذي ستقيمه. يخرج «المدرّس» كما تناديه دوروثيا راكضاً راقصاً في الشوارع من شدة فرحه، ليقع في حفرة ومنها يتحول إلى شكل آخر، نفهم أنه يقف على السلم المؤدي إلى الآخرة، أي أنه دخل في غيبوبة، والتي تعتبر الحد الفاصل ما بين الحياة والموت.

الاتجاه المعاكس

تتغير أشكال الشخصيات بما أننا أصبحنا في عالم خيالي، حيث ترفض روح البطل الاستسلام لفكرة الموت، فيهرب مسرعاً بالاتجاه المعاكس، ليجد نفسه في مكان هادئ جميل يشبه الحقل الأزرق، ويفهم من «جيري» التي تعرّف عن نفسها بأنها ملتقى المجالات الكمية في الكون، أن هذه الأشكال الصغيرة التي يراها هي الكائنات قبل ولادتها على الأرض، وهي تمر في مراحل تكوين شخصية كل منها، وحين تكتمل كل العناصر وتجد الشرارة المهمة التي تدفعها للعيش، تعبر إلى الأرض. يقدم المخرج دوكتر الشخصيات في هذا العالم بأشكال تكعيبية ثنائية الأبعاد، مطاطة، ومصنوعة من خطوط النيون. المفروض أن تتعلم هذه الأجيال الصغيرة الجديدة التي ينادونها بالأرقام، ولا تحمل اسماً إلا حين تعيش على الأرض، تتعلم من القادمين وتستفيد من خبراتهم الطويلة، لتكتمل الشخصية ويعرف كل منهم ما هي الشرارة التي تنقصه. يحاول جو عبثاً العودة إلى الأرض، إلى أن يقع عليه الاختيار لتدريب «22» (تؤديها تينا فاي)، والمعروفة بتمردها وسخريتها من كل شيء وشدة ذكائها. ورفضت الإرشاد من أعظم الشخصيات في تاريخ البشر، أمثال أبراهام لنكولن، والأم تريزا..

رحلة جو و«22» إلى الأرض أفاقته من غيبوبته، ومكنته من تقديم الحفل الذي لطالما حلم به، وحقق نجاحاً أبهر دوروثيا، ووالدته، والناس، لكنه لم يجد السعادة التي انتظرها. استوقفته كلمات «22» عن النعم الكثيرة التي يتمتع بها الإنسان، ولا يتوقف عندها، بل لا ينتبه لأهمية وجودها في حياته، مثل المشي على قدميه، حاسة التذوق، والشم، واللمس.. كل الأشياء الجميلة في حياته التي لا يراها لأنها بسيطة وقد اعتاد عليها، بينما هي مهمة جداً بالنسبة لمن لا يملكها. إشارات كثيرة يرسلها الفيلم ليلتفت الإنسان إلى تفاصيل حياته ويستمتع بها قبل أن يخسرها، وألا تسيطر عليه فكرة ما، أو هدف واحد يسعى خلفه ولا يرى غيره، فيكتئب إذا لم يحققه، كأنه جوهر الحياة ومن دونه تفقد الأشياء معانيها.

الرسائل

«الهدف والشغف» هما العنوان العريض لرسالة «سول»، حتى الولادة لا تأتي من دون أن يحمل معه الإنسان في ذاته شغفاً وهدفاً يسعى إلى تحقيقه. والنهاية أرادها بيت دوكتر مميزة، وتتضمن الكثير من المعاني الجوهرية لمعاناة الأرواح التائهة والأشخاص الباحثين عن سبب حقيقي لحياتهم ووجودهم، وعن التمسك بالتفاصيل الصغيرة للوصول إلى الرضا والسعادة. وللمؤلف رسالة أخرى تلفتك منذ بداية الفيلم، وهي حرصه على أن تكون شخصيات عمله من أصحاب البشرة السمراء، يعيشون في أحيائهم الخاصة بهم في أمريكا، حتى موسيقى الجاز يتحدث عنها على لسان والد جو بأنها «واحدة من أعظم مساهمات الأمريكيين الأفارقة في الثقافة العالمية». فيلم ينحاز للأمريكيين السود، ويغيب عنه البيض عمداً. الإخراج يستغل التكنولوجيا بحرفية عالية، الحوار فلسفي عميق، الكوميديا حاضرة في أغلبية المشاهد بينما الحزن يعبر سريعاً رغم تناوله فكرة الموت والولادة. وكعادة الرسوم الكرتونية الحديثة، لم يعد العمل السينمائي ينشغل بتقديم الأشكال الجميلة ،والفتيات الفاتنات، أو البطل الوسيم، إنما يكون الجمال في القصة، والسيناريو، والحوار، والإخراج.

 [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"